دستور الحرب الأخلاقي في الإسلام
أثنى الله -تعالى- على خُلُق رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وما ذاك إلّا لأنّ حسن الخلق من أعظم الخصال الحميدة، وقد بيّن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم- منزلة الخُلُق الحسن في الإسلام، واعتبره بمنزلة أهمّ العبادات من صلاة وصيام، فقال: (إِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ) رواه الترمذي حديث رقم (2003).
وأوّل ما ينبغي أن يكون الخلق الحسن مع المؤمنين فيما بينهم، حيث مدح الله تعالى المؤمنين بقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، بينما ينبغي أن يكونوا أشدّاء مع عدوهم كما قال تعالى في الآية نفسها: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}، ولكنّ هذه الشدّة لا يصح أن تخرجنا عن العدل والإنصاف مع عدونا، كما لا يصح أن تخرجنا عن ثوابتنا، قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 6]، ومعنى الآية: لا تحملنّكم عداوتكم لقوم على ظلمهم وعدم العدل معهم، فالعدل حتى مع الأعداء مطلوب، وهو من علامات التقوى.
وينبغي علينا -معشر المسلمين- أن نحافظ على ثوابتنا وأخلاقنا التي ربّانا عليها الإسلام، فلا يصح أن نلجأ إلى الأساليب غير الأخلاقية حتى مع عدونا، ولو تجاوز هو حدّه، وتجاوز كل الأعراف، فلا نتخلى عن ثوابتنا أمام تصرفاته، ومن هذا الباب فإنه لا يجوز استعمال الأسلحة الفتّاكة مثل: أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيماوية والجرثومية، وما شابهها مما يهلك الحرث والنسل، فقد نعى الله -تعالى- على المفسدين في الأرض وذمّهم بقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، ومع ذلك فإنّ هذا لا يمنع من أن يحوز المسلمون على هذه الأسلحة ليستعملوها في الأمور المفيدة، وكذلك حتى يرهبوا بها عدوهم، فلا يهدّدهم بأسلحته.
وقد حدّد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ضوابط الدستور الأخلاقي في الحرب، ودليل ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث جيوشه قال: اخْرُجُوا بِسْمِ اللهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، لَا تَغْدِرُوا، وَلا تَغُلُّوا، وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ، وَلا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ) رواه أحمد حديث رقم (2728).
ولنبدأ بها واحدة واحدة:
(لَا تَغْدِرُوا):
الغدر يعني: خيانة العهد، وعدم الوفاء به، فالإسلام حرّم الغدر بكل أنواعه واعتبره خصلة من خصال النفاق، قال صلى الله عليه وسلم: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) متفق عليه، البخاري حديث رقم (34)، مسلم حديث رقم (106).
(وَلا تَغُلُّوا):
الغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل أن يقوم الإمام بتوزيعها على الغانمين واتخاذ ما يرى فيه المصلحة العامة للمسلمين، ويطلق على الغلول أيضًا: (النهبة)، وقد ورد ذكرها في الحديث بـ (الغلول) و(النهبة).
عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ حُنَيْنٍ، إِلَى جَنْبِ بَعِيرٍ مِنَ الْمَقَاسِمِ، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنَ الْبَعِيرِ، فَأَخَذَ مِنْهُ قَرَدَةً -يَعْنِي وَبَرَةً- فَجَعَلَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا مِنْ غَنَائِمِكُمْ، أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ وَمَا دُونَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشَنَارٌ وَنَارٌ) رواه ابن ماجة حديث رقم (2850) وهو صحيح. والشنار: هو العيب والعار.
(وَلا تُمَثِّلُوا):
الـمُثلة: الانتقام من العدو بعد قتله، بتشويه جثته، وذلك بقطع أجزاء من جسده مثل: الأنف، والأذن، والذكر، أو باستخراج عضو من أعضائه الداخلية، مثل: الكبد والقلب، أو حرق الجثة، وما شابه ذلك، والتمثيل تعبير عن حقد دفين لدى من يقوم به، وكأنه يريد أن يشفي غيظه بهذا الفعل.
نعم إنّ عدونا اليوم لم يترك آلة من آلات التدمير والتخريب إلا واستعملها، ولا طريقة من طرق التشويه والتمثيل بالشهداء إلا ارتكبها، وصدق فيهم قول الله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
ومع كل هذه الأعمال الإجرامية فلا ينبغي أن يكون لدينا ردّات أفعال، فنتصرف كما يتصرف أولئك الهمجيون، وإلا أصبحنا مثلهم، نحن نعلم كما قالت السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لابنها الزبير عندما قال لها: أخشى يا أماه أن يُمَثِّل بي الأعداء فقالت له: "وهل يضرّ الشاة سلخها بعد ذبحها"؟، وإن فعلوا ما فعلوا، فنحن لدينا أمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدم التمثيل بقوله: (لا تُمَثِّلُوا):
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أعَفُّ الناس قِتلةً: أهلُ الإيمان) رواه أحمد حديث رقم (3728) وهو حسن، ومعنى ذلك: أنّ أهل الإيمان يعفّون عن الانتقام من الموتى والتمثيل بهم.
(وَلا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ، وَلا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ):
إنّ من أخلاقيات القتال في الإسلام: تحريم قتل من لا يقاتل من الأطفال، والنساء، والعجزة، وكبار السن الهرمين، والرهبان الذين يتعبّدون في صوامعهم بعيدين عن كل أنواع القتال، ومَنْ في حكمهم من أصحاب العاهات كالأعمى والمجنون وغيرهم، وهؤلاء لا يجوز قصدهم بالقتل مباشرة، أما مَنْ قاتل منهم فإنّه يجوز قتله، لأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على خلّاد بن سويد، كما يُقتَل منهم من كان يستعين العدو برأيه وفكره ولو كان عاجزًا جسديًّا، لأن الرأي في الحرب لا يقلّ عن المعونة بالسلاح، وقد قُتل دُريد بن الصمّة وهو شيخ كبير يوم حنين، ولم ينكر النبي -صلى الله عليه وسلم- قتله، وذلك لأنّ قومه كانوا يستعينون برأيه كما في صحيح البخاري ومسلم.
ضوابط وقواعد مهمّة في الدستور الأخلاقي لمعركتنا مع النظام السوري:
-
إخلاص النية لله -تعالى- والتجرّد له بعيدًا عن السعي للحصول على أي مكسب دنيوي، أو جاه، أو منصب، فالقتال في سبيل الله ومن أجل الله ولإعلاء كلمة الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) متفق عليه البخاري حديث رقم (123)، مسلم حديث رقم (1904)، وما أجمل أن يعيش المجاهد مع قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
-
الحفاظ على أخلاقية الثورة ونقاء صفحتها، بحيث تكون وفق المعايير الإسلامية والإنسانية، وتجنّب ردود الأفعال مع العدو حتى في قتالنا فيه، وأسرنا لجنوده، وحيازتنا لمعدّاته، وسيطرتنا على أماكن تمركزه، فنحن -معشر المسلمين- لنا مرجعيتنا، وثوابتنا، وقيمنا، أما عدونا فلا ثوابت عنده ولا قيم.
-
الحرص على حقن دماء المواطنين، وبذل كلّ جهد ممكن للمحافظة على أرواحهم وممتلكاتهم، وذلك بالبعد عن التمركز في أماكن تواجدهم أو التترّس بهم.
-
الحفاظ على ضبط النفس أثناء المعركة، والبعد عن التصرّفات العسكرية الانفعالية العاطفية التي يطيش معها القرار، ويبتعد عن أهدافه وغاياته.
-
الحرص على أن يكون استخدام السلاح في أضيق الحدود، وعدم الإسراف في استخدام الذخيرة إلا بقدر ما تحتاجه الخطط والعمليات العسكرية.
-
التعامل مع الآليات العسكرية التي يستعملها العدو بقدر ما تقتضيه خطّة المعركة، ومحاولة تجنب تدميرها فهي ملك للشعب وليست للعدو.
-
عدم استخدام الذخيرة الحيّة في التعبير عن الفرح، فقيمة الطلقة الواحدة يمكن أن نطعم بها جائعًا.
-
بذل الجهد في الحفاظ على المباني والطرق والجسور التي تم إنشاؤها من قوت الشعب وعرق جبينه.
-
الحفاظ على مؤسسات الدولة من (مدارس وجامعات ومستشفيات ومصانع ودور عبادة وغير ذلك).
-
الحفاظ على المزارع والبساتين والأماكن العامة.
-
الحفاظ على اللُّحمة الوطنية بين جميع أبناء الشعب السوري، وعدم الانجرار وراء الدعوات التي يروّج لها النظام وأذنابه من أنّ الثورة السورية هي حرب أهلية أو طائفية أو عرقية، فالوطن يستوعب جميع المواطنين دون تمييز.
-
تجنّب -ما أمكن- تدمير المباني والمقرّات التي يتمركز فيها العدو، ووضع الخطط المناسبة للردّ عليه دون إحداث أضرار كبيرة في تلك المباني لأنّها في النهاية هي للشعب.
-
الحرص ما أمكن على الابتعاد عن المواجهة في الأحياء السكنية وما شابهها من أسواق ومصانع ومتاجر.
-
حسن تعامل الإخوة المجاهدين فيما بينهم، وإشاعة روح المحبّة والتعاون والإيثار، واستشعار قوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، والحذر من الخلاف، لأنّ الخلاف هو نذير الفشل والخذلان.
وفي حال حصول أي نوع من أنواع الخلاف ينبغي المسارعة إلى نزع الفتيل وتقريب وجهات النظر، وتأليف القلوب عملًا بقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقوله صلى الله عليه وسلّم: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا) رواه أحمد حديث رقم (23064)، وهو صحيح الإسناد، فإذا كان مجرّد التخويف بالقول أو الفعل محرّمًا فما بالنا بما هو أكثر من ذلك؟ (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا) متفق عليه: البخاري حديث رقم (6874)، مسلم حديث رقم (161). وفي رواية لمسلم برقم (161) (مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ فَلَيْسَ مِنَّا).
فالحذر الحذر من أن يصل بنا الأمر إلى ذلك فنخسر الدنيا والآخرة.
إضافة تعليق جديد