بطولات إسلامية في العصر الحديث
يقول الأمير شكيب أرسلان:
"ومما يجب أن يخلّد في الصدور قبل السطور وأن يكتب على الحدق قبل الورق أنّ حفظ التاريخ هو الشرط الأول لحفظ الأمم ونموها ورقي الأقوام وسموها"، وفي تاريخنا الحديث الذي يجب أن يخلّد ويحفظ: سيرة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله، ذلك العالم البطل والرئيس المجاهد، الذي أراد تحرير الجزء الشمالي من المغرب أو ما يسمى (الريف) واتخذ من بلدة (أجدير) مقرًا له.
والذي أريدُ أن أوضحه في سيرة هذا العالم الرئيس، ليست البطولات العسكرية وإن كانت عظيمة، وخاصّة معركة (أنوال) التي هزم فيها الإسبان هزيمة منكرة، وقُتل فيها غالب جيش الغزو الإسباني، وأُسر كبار قادتهم، قال المعلقون الغربيون: لقد نجح عبد الكريم في إنزال كارثة بالجيش الإسباني بصورة تدعو إلى الدهشة. وعلّق الكاتب أمين الريحاني: "نُكبت إسبانيا النكبة القاسية، حيث أغار عبد الكريم ببضع مئات من رجاله على الجيش الإسباني وفتكوا بهم فتكًا ذريعًا". ويطول الحديث عن انتصاراته العسكرية، ولكن نريد التحدّث عن التخطيط مع والده عبد الكريم لما قبل المواجهة والمعارك مع الإسبان والفرنسيين.
في منطقة الريف ولد محمد بن عبد الكريم عام 1300هـ /1882م من أسرة تتمتع بمكانة كبيرة في العلم والدين، فوالده زعيم قبيلة (بني ورياغل)، وكان هذا الوالد يراقب الحالة الهستيرية التي انتابت الدول الاستعمارية في احتلال الشمال الأفريقي، واستعدادًا للمواجهة: أرسل ابنه محمد إلى مدينة (فاس) لتلقّي العلم الشرعي، وبعد ذلك أرسله إلى مدينة (مليلة) الواقعة تحت الاحتلال الإسباني، وذلك لتعلّم اللغات الأجنبية، وحتى يستطيع التعرّف على الإسبان من داخلهم، وسمح له هذا الوالد بالعمل مع الإسبان فعمل في الصحافة، ثم بالقضاء، وبقي معهم ثلاث عشرة سنة، كانت كما قال ضابط إسباني: (كموسى في قصر فرعون). كما أرسل الوالد أخاه الأصغر إلى إسبانيا لدراسة الهندسة.
عاد الأمير محمد إلى بلده (أجدير) وكانت قبائل الريف متفرّقة متناحرة، وكانوا في حالة يأس، ويتوقّعون الاحتلال الإسباني في كل وقت. شرح ابن عبد الكريم لهذا الشعب أهمية الاتحاد على الحق والدفاع عنه، وعندما سألوه بماذا نستعد وحالنا كما ترى؟ قال لهم:
بنبذ الماضي كلّه (ماضي الثأر والعصبيات القبلية)،
وبالعقيدة ثانيًا،
وبالنظام والخطّة ثالثًا ... وبعد ذلك يأتي النصر بإذن الله.
وشرح لهم الدين الإسلامي بشكل مبسّط، وبدأت الألفة تدبّ بينهم، شرح لهم أصول الدين والشريعة بأنّها معاملة، وأمانة، ونظافة، ونظام، وسلوك وأخلاق ومبادئ، وشجاعة، وكرم، وعلم، وبناء وعمران، ورسالة في الحياة، ووحدة وإخاء، وتسامح ومحبة ورحمة، ووطنية. وحَاضَرَ فيهم حول تاريخ إسبانيا وتاريخ المسلمين في الأندلس، والمعارك التي وقعت بينهم وبين الإسبان، كما اهتم بالجانب الاقتصادي وشجّعهم على الزراعة والعمل.
بعد هذا الإعداد الإيماني والخلقي قال لهم: كلّ هذا سيبقى ناقصًا إذا انعدمت الحرية، وقبل بدء مرحلة الجهاد طلب من أحد العلماء أن يكتب له صيغة القسم الذي يجب أن يُؤدى فكتب:
"أعاهد الله أن ألتزم بتنفيذ الأحكام الشرعية التي يأمر بها القرآن الكريم والسنة النبوية، وأعاهد الله أن أدافع عن ديني ووطني".
بعد ذلك كان يشرح لهم أساليب الحرب الحديثة وفوائدها، وأمرهم أن يحضر كل واحد منهم معه فأسًا، وقال لهم: الفأس والبندقية تؤامان لا ينفصلان، قالوا: كيف؟ قال: الأولى لحفر الخندق، والثانية لضرب العدو. لقد تبنى ابن عبد الكريم حرب الخنادق وحرب العصابات ونجح في ذلك.
قرّر الريفيون تحرير بلادهم وبزعامة ابن عبد الكريم، وانتصروا على الإسبان، ثم تدخلت فرنسا وانتصروا عليها أيضًا، قام الغرب وقعد لهذه الانتصارات، فلم يكن أي جيش أوروبي قد ذاق مثل هذه الهزائم، وتحالفت كل الدول إسبانيا وفرنسا وبريطانيا على تحطيم هذا الجهاد وهذه البطولات، فحاصروا العاصمة (أجدير) برًّا وبحرًا، وضربوا قبيلته بالغازات السامّة ودمّروا المدينة، اضطر ابن عبد الكريم للانسحاب، ولكنّ الإيمان ما يزال قويًّا فقال لشعبه كوصية أخيرة: "تمسّكوا بإيمانكم بالله وحده، لا أمانة للمستعمرين، ولا دوام للخيانة".
لم يكن ابن عبد الكريم يجهل أوروبا وأفكارها وحضارتها، ولكنّه قطُّ لم ير العالم من خلال النظرة الأوروبية، ولكنه رأى العالم من خلال شعبه وبلده وإيمانه بحقه. قال مراسل إحدى الصحف الأجنبية: "ليس ثمّةَ عبقرية هنا، بل ثمّةَ ما هو أفضل من العبقرية، وثمَّة القدرة على تجميع القوى وتوجيهها". ويقول مراسل التايمز: "لم يكن ابن عبد الكريم منظّمًا جيدًا ومقاتلًا رائعًا فحسب، بل كان منشئ مراسلات ممتازًا وبارعًا، لقد تعلّم أن يتحدث اللهجة التي كانت أوروبا قد ألفتها، وهو رجل لا يتورّط في أية مغامرة قبل أن يدرس جميع احتمالاتها".
ويقول المراسل الأمريكي (فانسنت شين): بعد مقابلة الأمير وهو يدافع عن عاصمته (أجدير): "وصلْتُ وسط عجيج مروّع من الغازات الجوية التي تقوم بها طائرات فرنسا وإسبانيا، ودخلت على عبد الكريم في خندق في الخط الأمامي، إنّ روعة شجاعته لا حدّ لها، إيمانه بعقيدته لم يتغير عن الرغم من الأخطار المحدقة به، إنّ هالات السمو والجلال تحيط به وتزداد عظمته مع ظروف الرعب والخطر الذي يحدق به، إنّه لا يزال مرحًا باسمًا، ليتني كنت أستطيع البقاء معه مدّة أطول هنا لأزداد تأمّلًا وتفكيرًا، ولأتعمّق في دراسة هذه الظاهرة البشرية الفريدة أمامي".
يقول المارشال الفرنسي (ليوتي): "كان انتصار الخطابي على الغرب يعني قيام امبراطورية عربية إسلامية على شاطئ المتوسط، وهذا يعني فتحًا إسلاميًا لأوروبا من جديد، وهو أمر لا يمكن التسليم به".
إضافة تعليق جديد