الولاء والبراء
لتحميل الملف كاملاً.. اضغط هنا
رسّخ الإسلام بين أبنائه أواصر المحبة والأخوّة، ودعا إلى ما تستلزمه من النصرة والتكافل، وجعل هذه الحقوق في عقد الولاء للمؤمنين.
وجعل للمسلمين هويّة مستقلة ومتمايزة عن غيرهم، في معتقدهم وعبادتهم وسلوكهم، وحرّم عليهم اتباع مسالك الكافرين أو مناصرتها، وجعل هذه الأوامر في عقد البراء من الكافرين.
فكان "الولاء والبراء" مقتضى ولازمَ وبرهان كلمة التوحيد وعقيدة الإيمان بالله تعالى، ومظهر الالتزام بدين الله عز وجل.
وقد تعرّض هذا المفهوم -كغيره من مفاهيم الشريعة الإسلامية- إلى إساءة الغلاة والجفاة، أهل الإفراط وأهل التفريط، فخَفِيَت معالمه واختلطت مسائله، فكان لزامًا تجلية حقائقه، وتصفية مسائله.
وفي هذه البحث نتعرض لبيان حقيقة الولاء والبراء ومفهومه، وبيان منزلته ودرجاته، وسبيل من حاد عنه من الغلاة والجفاة، والله المستعان لبلوغ المراد.
المطلب الأول: مفهوم الواء والبراء
أولاً: معناهما في اللغة:
الولاء: لغةً:
الولاء من الجذر (وَلِـيَ)، قال ابن فارس: "الواو واللام والياء: أَصل صحيح يدلُّ على قُرْبٍ. مِنْ ذلك الْوَلْيُ: الْقُرْب"مقاييس اللغة (6 / 141)..
ويستعمل لفظ الولاء في معاني عديدة، منها:
- المحبة، ومنه: والى فلانٌ فلانًا إذا أحبّه.
- النُصرة: يقال: هم عليَّ وَلاية، وِلاية، أي مجتمعون في النصرة. والولي من أسماء اللهِ الناصرِ سبحانه.
- القرابة: ومنه موالي الرجل: ورثته وبنو عمه، كما في قوله -تعالى- عن زكريا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي}[مريم:5].
- العلاقة بين المعْتِق (السيد) والمعْتَق (العبد)، ويقال لهما مولى النعمة، فالسيد وليُّ العبد، لأنّه يرثه لو مات فصار كمواليه من النسب، والعبد وليُّ السيد لأنّه بمنزلة أبناء عمومته، له عليه حق النصرة. والمولى والولي بمعنى واحد.
- التدبير والقيام بشؤون الآخر: ومنه ولي اليتيم: الذي يلي أمرَه ويقوم بكفايته، وولي المرأة: الذي يلي عقد النكاح عليها، وقيل في معنى اسم الله الولي: المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها، ومعنى اسم الوالي: مالك الأشياء جميعها.
- الإمارة: وبعضهم يفرّق بين الوَلاية بفتح الواو، أي النسب والنصرة، وفاعلها الولي، والوِلاية بكسر الواو، أي الإمارة، وفاعلها والي، وبعضهم يجعل اللفظيين للمعنيين.
والتولّي من فعل تولاه: أي اتّخذه وليــًا، بالمعاني السابقة للوليانظر في كل ما سبق من المعاني: لسان العرب (15 / 409)..
ومعنى وجذر (ولي) الأصلي كما قال ابن فارس: القرب، سواء المادي كالنسب، أو المعنوي كالحب، فالمرء يحب من هو قريب لقلبه وفكره، ويناصر من هو قريب منه نسبًا أو منهجًا، ويرعى شؤون من هو قريب له نسبًا كاليتيم والصغير والولد، ويسوس من هو قريب منه في البلد والأرض، وهكذا.
البراء لغة:
قال ابن فارس: "فأما الباء والراء والهمزة فأصلان إليهما ترجع فروع الباب:
أحدهما: الخلق، يقال: بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَبْرَؤُهُمْ بَرْءًا.
والأصل الآخر: التباعد من الشيء ومزايلته. من ذلك: البرء وهو السلامة من السقم، يقال: بَرِئْتُ وَبَرَأْتُ"مقاييس اللغة (1 / 236)..
وقال أيضًا: "وأهل الحجاز يقولون: أنا براء منك، وغيرهم يقول أنا بريء منك. قال الله -تعالى- في لغة أهل الحجاز: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}[الزخرف: 26]، وفي غير موضع من القرآن: {إِنِّي بَرِيءٌ}[الأنعام: 78]، فمن قال أنا براء لم يثنّ ولم يؤنّث، ويقولون: نحن البراء والخلاء من هذا، ومن قال: بريء، قال: بريئان وبريئون، وَبُرَآءُ على وزن بُرَعَاءِ"مقاييس اللغة (1 / 236)..
وفي لسان العرب والقاموس المحيط أمثلة كثيرة لاستعمالات الجذر لا تخرج عن هذين الأصلينلسان العرب (1 / 31)، القاموس المحيط ص (34)..
ثانيًا: معناهما في الاصطلاح:
ورد لفظا الولاء والبراء في نصوص الكتاب والسنة بمعنىً مطابق للمعنى اللغوي:
فالولاء: هو القرب والمحبّة والنصرة.
والبراء: هو البعد والبغض والعداوة.
وبهذا المعاني فسّر العلماء هذين اللفظين، فمثلاً عند قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:28]، يقول الطبري: "لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين"تفسير الطبري (6 / 313)..
وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {بعضهم أولياء بعض}[التوبة:71]: "أي: يتناصرون ويتعاضدون"تفسير ابن كثير (4 / 174)..
وأحيانًا لا يشرحونها لوضوح معناها، وهذا كثير جدًا، بل يتجاوزون المعنى إلى ما وراءه من العلة.
لذا فإنّ تعريف الولاء اصطلاحًا هو: القرب والمحبّة، بأي صورة أو معنى يدلان عليه.
وأركان هذه التعريف اثنان:
- وجود القرب أو التقارب: وهو لب المعنى اللغوي، ولا يوجد خلاف بين المعاني اللغوي والشرعي والاصطلاحي، لأنّ الشرع استعمل الولاء بمعناه اللغوي في كل نصوصه، وكذلك أهل العلم في كلامهم.
- عموم الصور أي بالقول أو الفعل، وعموم المعنى أي سواء بالمحبة أو المناصرة أو الود أو جعله وصيًا، وطاعته.
وقريبًا من هذا تعريفات بعض المعاصرين، ومنها:
- تعريف د. محمد نعيم ياسين: "الموالاة تعني التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا لمن يتخذه الإنسان وليًا"الإيمان أركانه وحقيقته (114)..
- وقال الشيخ عبد الله الجبرين: "محبّة المؤمنين لأجل إيمانهم، ونصرتهم، والنصح لهم، وإعانتهم ورحمتهم، وما يلحق بذلك من حقوق المؤمنين"تسهيل العقيدة الإسلامية (543)..
وتعريف البراء اصطلاحًا هو: البعد والترك مع البغض.
وأركان هذا التعريف اثنان:
- وجود الترك والمفارقة، وهو لب المعنى اللغوي.
- عموم الصور أي بالقول أو الفعل، وعموم المعنى أي بالبغض وما يترتب عليه.
وقريبًا من هذا تعريفات بعض المعاصرين، ومنها:
- تعريف الشيخ محمد سعيد القحطاني بقوله: "هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار"الولاء والبراء في الإسلام (90)..
- وقال الشيخ عبد الله الجبرين: "بغض أعداء الله من المنافقين وعموم الكفار، وعداوتهم، والبعد عنهم، وجهاد الحربيين منهم بحسب القدرة"تسهيل العقيدة الإسلامية (552)..
والولاء والبراء مصطلح مركب من اللفظين، فيحسن تعريف المركب ليكون تعريفًا للمصطلح، وبما أن الولاء مطلوب للمؤمنين، والبراء للكافرين وأهل البدع والفجور، فيمكن أن نضع تعريفًا
جامعًا فنقول:
الولاء والبراء: هو القرب بكل صوره للمؤمنين والبعد والترك مع البغض للكافرين وأهل البدع والفجور.
وجوهر الولاء والبراء: هو حب المؤمنين ويلزم منه نصرتهم وعونهم، وبغض الكافرين وأهل الفجور والبدع، ويلزم منه هجرهم وترك سبيلهم ومجاهدتهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته تابعًا لأمر الله ورسوله، فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله. ومن كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة، إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض، بحسب ما فيهم من البر والفجور"مجموع الفتاوى (35 / 94)..
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: "وحيث إنّ الولاء والبراء تابعان للحب والبغض فإنّ أصل الإيمان أن تحبّ في الله أنبياءه وأتباعهم، وتبغض في الله أعداءه وأعداء رسله"الفتاوى السعدية (1 / 98)..
المطلب الثاني: أدلة الولاء والبراء
الولاء والبراء من الموضوعات الإيمانية الأساسية التي حظيت باهتمام الشرع، والنصوص فيها كثيرة، لا سيما إن اعتبرنا النصوص التي تدعو للازم الولاء والبراء، كنصوص محبة المسلمين والإحسان إليهم والبر بهم والألفة والوحدة والاعتصام، وتحريم القطيعة وغيرها، مما يرسخ مبدأ الأخوّة والموالاة بينهم، وكذلك نصوص لازم البراء من الكافرين والمنافقين، كبغضهم وجهادهم وعدم الركون إليهم ولا الثقة بهم.
ونسوق فيما يلي بعض النصوص الدالة على الولاء والبراء بالعموم.
أولاً أدلة الولاء:
من القرآن الكريم:
- قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[المائدة:55-56].
جاءت هذه الآية في سياق الآيات التي تحرّم وتحذر من اتخاذ الكفار واليهود والنصارى أولياء، ثم جاءت لتبيّن أنّ أولياء المؤمنين هم الله ورسوله والمؤمنون، وفي الآية التي قبلها {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة:54] بيّنت أنّ المؤمنين من يكونون أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين، وهو حقيقة الولاء والبراء.
يقول القرطبي: "{أذلة على المؤمنين}، (أذلة): نعت لقوم، وكذلك (أعزة) أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم، من قولهم: دابة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذل في شيء، ويغلظون على الكافرين ويعادونهم، قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته"تفسير القرطبي (6 / 220).، وقال: "{ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا} أي من فوّض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله"المرجع السابق (6 / 222)..
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "أخبر -تعالى- المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنّهم إن ارتد بعضهم فإنّ الله يأتي عِوضًا عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم، ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين"أضواء البيان (1 / 415)..
فالآية بيّنت وأمرت في سياق الخبر أنّ المؤمن يجب عليه أن يكون مواليًا للمؤمنين، ذلولاً لهم لينًا رفيقًا ورحيمًا بهم، وأن يكون عزيزًا وغليظًا على الكافرين.
- قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ}[التوبة: 71]
قال القرطبي: "{بعضهم أولياء بعض} أي قلوبهم متّحدة في التوادّ والتحابّ والتعاطف"تفسير القرطبي (8 / 203)..
وقال ابن كثير: "{بعضهم أولياء بعض} أي: يتناصرون ويتعاضدون، كما جاء في الصحيح: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، وشبّك بين أصابعه) وفي الصحيح أيضًا: (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)"تفسير ابن كثير (4 / 174)، وسيأتي تخرج الأحاديث..
وهذه الآيات خبرية، لكنها في موضع الإنشاء الطلبي التقريري، أي تقرر قاعدة في طبيعة التعامل والعلاقة بين المؤمنين، وأنّها قائمة على الموالاة فيما بينهم، من المحبة والنصرة والتراحم والتعاطف والنصح والحماية، وكل صور الولاء، وهي في تقريرها ومضمونها كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:10]، فهي تبيّن أنّ المؤمنين قريبون من بعضهم كقرابة الأخوة، ويلزم من هذا القرب أن يكون بعضهم أولياء بعض، ويثمر هذا المحبةَ والمناصرة والتعاطف وما سبق بيانه.
من السنّة:
- عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كنّا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلّم- فقال: (أيّ عرى الإسلام أوثق؟ قالوا: الصلاة، قال: حسنةٌ، وما هي بها، قالوا: صيام رمضان، قال: حسنٌ وما هو به، قالوا: الجهاد، قال: حسن وما هو به، قال: إنّ أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله وتبغض في الله)أخرجه أحمد برقم (18524)..
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن مسعود، قلت: لبيك ثلاثًا، قال: (هل تدرون أيّ عرى الإيمان أوثق؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (الولاية في الله، والحبّ في الله، والبغض في الله)أخرجه الطبراني في الكبير برقم (10357)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (9046).، والحديث ورد عن عدد من الصحابة بألفاظ متقاربةقال الشيخ الألباني بعد ذكر روايات الحديث: "قلت: فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم". السلسلة الصحيحة (4 / 307) برقم (1728)..
- عن النعمان بن البشير -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى)أخرجه البخاري برقم (6011)، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم. ومسلم برقم (2586)، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم..
- وعن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: (إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُأخرجه البخاري برقم (481)، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. ومسلم برقم (2585)، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم..
- وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)أخرجه البخاري برقم (2442)، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه..
هذه الأحاديث غيض من فيض في بيان أخوّة ولُحمة المسلمين، ووجوب الولاء بينهم، يقول ابن الجوزي: "إنّما جعلَ المؤمنين كجسدٍ واحدٍ لأنّ الإيمانَ يجمعُهم كما يجمعُ الجسدُ الأعضاءَ، فلموضع اجتماع الأعضاء يتأذى الكل بتأذي البعض، وكذلك أهل الإيمان، يتأذى بعضهم بتأذي البعض"كشف المشكل من حديث الصحيحين (2 / 212)..
وقال النووي: "هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثّهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه"شرح مسلم للنووي (16 / 139)..
والصور البيانية التي استعملها النبي -صلى الله عليه وسلم- لتقريب معنى الموالاة بين المؤمنين تشير إلى عمق وجوهر وأهمّية هذا الولاء وأثره في المجتمع الإسلامي، ومن جميل بيان هذه المعاني والصور والتشبيهات ما قاله الشيخ محمد الشاذلي الخولي: "وكذلك الجدار إذا كان قائمًا وحده، وعمره قصير تزلزله حوامل الأثقال إذا مرّت بجانبه، وتهزه العواصف الشديدة أو تطرحه أرضًا، فإذا ما اتصل بغيره من طرفيه حتى كانت في الجدار حجر، وكان من الحجرات منزل أو عمارة، رسخ في مكانه وصلب في مقامه، ولا تؤثر فيه الحوادث إلا بقدر، فالجدار وحده ضعيف، وبأمثاله قوي شديد. ذلك مثل المؤمن للمؤمن، فهو معه كالبنيان يشد بعضه بعضًا فالمؤمنون شأنهم التعاون والتناصر، والتظاهر والتكاتف على مصالحهم الخاصة والمصالح العامة. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، أما التفرق والتخاذل فلا يعرفه الإيمان، وليس من الدين في شيء"الأدب النبوي ص (60)..
ثم قال: "ولقد مثّل الرسول -صلى الله عليه وسلم- اتحاد المسلمين ومعونة بعضهم لبعض بالتشبيك بين أصابعه. وإدخال بعضها في خلال بعض، ولا شك أنّ ذلك يزيد في متانة كل إصبع ويعطي كل يد قوة إلى قوتها، كذلك المسلمون إذا تضامّت أيديهم، وتظاهرت قواهم، وتحابّت نفوسهم، وتساندت أممهم، زادوا قوة، وخلقوا لهم عزة فدانت الأمم لسلطانهم وخضعت لأمرهم ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"المرجع السابق..
ثانياً أدلة البراء
من القرآن الكريم:
- قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}[آل عمران: 28]. ففي هذه الآية نهي للمؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء، وبيان أنّ هذا الفعل ليس من الإيمان في شيء، فهو دعوة صريحة وتقرير واضح لعقيدة البراء من الكافرين.
قال الطبري: "لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك {فليس من الله في شيء}، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر، {إلا أن تتقوا منهم تقاة}، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل"تفسير الطبري (6 / 313)..
وقال البيضاوي: "{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ} نُهوا عن موالاتهم لقرابةٍ وصداقةٍ جاهلية ونحوهما، حتى لا يكون حبّهم وبغضهم إلا في الله، أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية، {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أنّهم الأحقّاءُ بالموالاة، وأنّ في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ} أي اتخاذهم أولياء {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي من ولايته في شيء يصحّ أن يسمى ولاية، فإن موالاتَيْ المتعادِيَيْن لا يجتمعانالمعنى: أنّ موالاة الوليّ وموالاة عدوّه متنافيان. قال:
تَــوَدُّ عَــدُوي ثُــمَّ تَــزْعُــمُ أَنَّــنــي
صَدِيْقُكَ لَيْسَ النوك عَنْكَ بِعَازِبِالنوك: الحُمْق، والعازب: البعيد، والمعنى: إن زعمت أنّك صديقي وفي الوقت نفسه تحبّ عدوّي فليس ببعيد أن تكون أحمق!.
{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه، أو اتقاء والفعل معدّى بـمِنْ لأنّه في معنى تحذروا وتخافوا، وقرأ يعقوب «تقيّة»، منعَ عن موالاتهم ظاهرًا وباطنًا في الأوقات كلها إلا وقت المخافة، فإنّ إظهار الموالاة حينئذ جائز"تفسير البيضاوي (2 / 12)..
وفي الآية بيان للأصل والاستثناء، فالأصل في علاقة المؤمن مع الكافر هي البراء، ولا يجوز أن يتّخذه وليًا، والاستثناء في حالة الخوف من الكافر وضعف المسلم فتجوز التقيّة منه، والتقيّة كما نقل القرطبي: "قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثمًا.
وقال الحسن: التقيّة جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقيّة في القتل.
وقيل: إنّ المؤمن إذا كان قائمًا بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفًا على نفسه، وقلبُه مطمئن بالإيمان، والتقيّة لا تحلّ إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم"تفسير القرطبي (4 / 57)..
فهي قول باللسان ولا تجوز بفعل محرّم في حقوق الآخرين كالقتل، وتكون في حالة الخوف، ويقاس عليه مثله في معناه كالضرورة والإكراهيحسن هنا التنبيه إلى الفرق بين التقيّة السنّية المشروعة وبين التقيّة الشيعية، حتى لا يُظن أنّ ما عليه الشيعة من التقية صحيح، وقد أجاد وفصّل في الفرق بينهما الدكتور ناصر القفاري في كتابه: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ص (308 وما بعدها)، وهو من أروع وأفضل وأجمع ما كُتِب في نقد مذهب الإمامية الاثنا عشرية. ونوجز ما ذكره بالنقاط التالية: • التقيّة السنّية مع الكفار، وتقية الشيعة مع المسلمين وخصوصًا أهل السنة. • التقيّة السنّية رخصة حالة الاضطرار كما تقدّم، وتقية الشيعة عزيمة وركن من أركان الدين، قال ابن بابويه كما في الاعتقادات ص (114)، نقله من كتاب أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية ص (807): "اعتقادنا في التقيّة أنّها واجبة، من تركها بمنزلة من ترك الصلاة"!! بل جعلوها تسعة أعشار الدين، ولا دين لمن لا تقيّة له، وأنّ تركها ذنب لا يغفره الله، وينسبون هذا الكلام لأئمة أهل البيت. • التقيّة السنّية استثناء وليست سمة عامة في المجتمع المسلم، وتقيّة الشيعة دين في المذهب وأصل من أصوله. • والتقيّة السنّية حال ضعف المسلمين أما تقيّة الشيعة في كل وقت. • والتقيّة السنّية بالأقوال لا بالأفعال كما تقدم، وتقيّة الشيعة بكل شيء. وبناء عليه حرّفوا كل تراث أهل البيت، فكل ما جاء من كلام أهل البيت موافقًا الحق قالوا: إنما قالوه تقيّة، وكل ما لم يبينوه من عقائدهم الكاذبة قالوا: تركوه تقيّة، فواضح أن تقيّة الشيعة هي عين الكذب لتحريف الحق ونشر الباطل، فشتّان بينها وبين التقية السنية..
ويوضح الشيخ السايس نقطة مهمّة في الآية فيقول: "نبّه المؤمنين إلى أنّه لا ينبغي لهم أن يوالوا أعداءه، أو يستظهروا بهم لقرابة أو صداقة قديمة، بل ينبغي أن تكون الرغبة فيما عند الله تعالى وعند أوليائه دون أعدائه" ثم يقول: "وأما الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، مع عدم الرضا عن حالهم فذلك غير منهيّ عنه، والموالاة لهم بمعنى الرضا بكفرهم ومصاحبتهم لذلك كفر، لأنّ الرضا بالكفر كفر، فلا يبقى المرء مؤمنًا، مع كونه بهذه الصفة"أحكام القرآن ص (190-191)..
فيبيّن أنّ الموالاة لها صور وحالات، وليست كلها محرمة، وهذا توضيح مهم، وسيأتي في الكلام عن درجات الموالاة وصورها.
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[آل عمران: 118].
أصل البطانة، الجانب الذي يلي البطن من الثوب، ويقابلها الظهارة، وسمّيت خاصة الرجل بالبطانة لأنّها موضع سرّه وحمايته، كما أنّ بطانة الثوب تحمي بطنه، قال ابن منظور: "بطانة الرجل: صاحب سرّه وداخلة أمره الذي يشاوره في أحواله"لسان العرب (13 / 55).، وقال الطبري: "وإنما جعل (البطانة) مثلاً لخليل الرجل، فشبّهه بما ولي بطنه من ثيابه، لحلوله منه -في اطِّلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه- محلَّ ما وَلِيَ جَسده من ثيابه"تفسير الطبري (7 / 138)..
واتخاذ المرء شخصًا بطانة له، دليلُ قربه منه ومحبّته له وثقته به، وهو من الموالاة، فنهى الله -تعالى- عن اتخاذ المؤمنين بطانة لهم من غير المؤمنين، لأنّهم ليسوا محلّ ثقة، بل هم أهل خيانة.
قال القرطبي: "نهى الله -عز وجلّ- المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء ووُلَجَاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم"، ثم قال: "ثم بيّن -تعالى- المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: {لا يألونكم خبالاً} يقول: فسادًا، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنّهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنّهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة"تفسير القرطبي (4 / 179)..
وقال الطبري: "فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلّاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذّرهم بذلك منهم ومن مخالَّتهم"تفسير الطبري (7 / 139)..
وقال الجصّاص: "بِطانةُ الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره ويثق بهم في أمره، فنهى الله -تعالى- المؤمنين أن يتخذوا أهل الكفر بطانة من دون المؤمنين وأن يستعينوا بهم في خواص أمورهم، وأخبر عن ضمائر هؤلاء الكفار للمؤمنين فقال: {لا يألونكم خبالًا} يعني لا يقصّرون فيما يجدون السبيل إليه من إفساد أموركم، لأنّ الخبال هو الفساد"أحكام القرآن (2 / 324).، وكلام أهل العلم متقارب في هذا.
- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة: 51-52].
فهذه الآية كسابقتها تنهى عن موالاة الكفار، وتزيد في البيان: أنّ من اتخذهم أولياء فهو منهم، أي حكمه كحكمهم، قال القرطبي: "قوله تعالى: {ومن يتولّهم منكم} أي يعضدهم على المسلمين، {فإنّه منهم}: بيّن -تعالى- أنّ حكمه كحكمهم"تفسير القرطبي (6 / 217)..
وقال الطبري: "{ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم}، ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنّه منهم، يقول: فإنّ من تولاهم ونصرَهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنّه لا يتولى متولٍ أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه، وصار حكُمُه حُكمَه"تفسير الطبري (10 / 400)..
ومن السنة:
- عن جرير -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترطْ علي، فأنت أعلم، قال: (أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين)أخرجه النسائي برقم (4177)، كتاب البيعة، باب البيعة على فراق المشرك. والطبراني في الكبير برقم (2318)، وأحمد برقم (19161)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (636)..
- وحديث البراء بن عازب، وحديث ابن مسعود رضي الله عنهما اللذان سبقا في أدلة الولاء (أيّ عرى الإسلام أوثق ...).
فهذه الأحاديث صريحة في طلب البراءة من المشركين ومعاداتهم، وإذا ما أضفنا لها ما ورد من أحاديث في النهي عن تقليد المشركين والتشبه بهم لكانت كثيرة.
المطلب الثالث: الولاء والبراء من الإيمان
ظهر من النصوص السابقة التي تقرر الولاء والبراء أنّ الولاء والبراء من تعاليم الشرع، ولكن نريد هنا أن نبيّن أنّه من جوهر الإيمان وحقيقته، وأنّ مسائل الولاء والبراء من مسائل الإيمان والعقيدة، وهما من لوازم كلمة التوحيد، التي هي أصل العقيدة الإسلامية.
فترك موالاة المؤمن ومولاة الكافر معصية، ولكن هذه المعصية هي من باب خوارم الإيمان.
ومن الأدلة التي تشير إلى هذه المعنى:
- قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[المائدة: 80-81].
جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن بني إسرائيل وعدم تناهيهم عن المنكر، واتخاذهم الكافرين أولياء، ثم بيّنت أنّهم لو كانوا مؤمنين بالله والرسول ما والوا الكافرين، فدلّ على أنّ البراءة من الكافرين من أصول الإيمان، وأنّ موالاة الكافرين تضرّ به.
يقول القرطبي: "يدل بهذا على أنّ من اتخذ كافرًا وليًا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله"تفسير القرطبي (6 / 254)..
ويقول ابن تيمية: "فذكر جملة شرطية تقتضي أنّه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء}، فدلّ على أنّ الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضادّه، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودلّ ذلك على أنّ من اتخذهم أولياء ما فعلَ الإيمانَ الواجبَ من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه"مجموع الفتاوى (7 / 17)..
ويقول الشيخ السعدي: "فإنّ الإيمان بالله وبالنبي وما أنزل إليه، يُوجب على العبد موالاة ربّه، وموالاة أوليائه، ومعاداة من كفر به وعاداه، وأوضع في معاصيه، فشرط ولايةِ الله والإيمانِ به: أن لا يتخذ أعداء الله أولياء، وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط، فدلّ على انتفاء المشروط"تفسير السعدي (1 / 240)..
وسواء كانت الآية تقصد بني إسرائيل في موالاتهم لكفار زمانهم وأنّهم لو كانوا يؤمنون بنبوة رسولهم ما فعلوا ذلك، أو تتحدث عن المنافقين وأنّهم لو كانوا يؤمنون بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم -كما ذكرت كتب التفاسير- فهذا لا يؤثّر في جوهر المعنى، لأنّ الإيمان واحد في جميع الرسالات، وأحوال أهله واحدة فيها.
- قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة:22].
وهو إخبار ونفي من الله تعالى أنّه لا يوجد من يؤمن بالله واليوم الآخر من يحمل مودة وموالاة لمن حارب الله ورسوله، وهو تصريح بأنّ الإيمان بالله ورسوله وموادّة من حاربهما لا يجتمعان، وإن وجد في الواقع من يزعم الإيمان ويوالي الكفار ويتودد لهم وهم يحاربون الله ورسوله، ففعله يكذّب دعواه بشهادة القرآن. وما تصرّح به الآية يشهد لما ندلل عليه، وهو أنّ البراءة من الكفار من أصول الإيمان ولوازمه ومسائله.
يقول ابن تيمية: "لا تجد مؤمنًا يوادّ المحادين لله ورسوله، فإنّ نفس الإيمان ينافي موادّته، كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وُجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلًا على أنّ قلبه ليس فيه الإيمان الواجب"مجموع الفتاوى (7 / 17)..
ويقول النَسَفي: "من الممتع أن نجد قومًا مؤمنين يوالون المشركون، والمراد أنّه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحالٍ، مبالغةً في الزجر عن مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم"تفسير النسفي (3 / 453)..
وقال ابن الجوزي: "وهذه الآية قد بَيَّنتْ أنّ مودَّة الكفار تقدح في صحة الإيمان، وأنّ من كان مؤمنًا لم يوالِ كافرًا وإِنْ كان أباه أو ابنه أو أحدًا من عشيرته"زاد المسير (4 / 252)..
وقال الفخر الرازي: "المعنى أنّه لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله، وذلك لأنّ من أحب أحدًا امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، وهذا على وجهين:
أحدهما: أنّهما لا يجتمعان في القلب، فإذا حصل في القلب وداد أعداء الله لم يحصل فيه الإيمان، فيكون صاحبه منافقًا.
والثاني: أنّهما يجتمعان ولكنّه معصية وكبيرة، وعلى هذا الوجه لا يكون صاحب هذا الوداد كافرًا بسبب هذا الوداد، بل كان عاصيًا في الله"مفاتيح الغيب (29 / 499)..
وقال الشيخ السعدي: "أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمنًا بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه، وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه ... وأما من يزعم أنّه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك موادّ لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإنّ كل أمر لا بد له من برهان يصدّقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئًا ولا يصدق صاحبها."تفسير السعدي ص (848)..
- وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن مسعود، قلت: لبيك ثلاثًا، قال: (هل تدرون أيّ عرى الإيمان أوثق؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (الولاية في الله، والحبّ في الله، والبغض في الله)أخرجه الطبراني في الكبير برقم (10357)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (9046).، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحبّ في الله والبغض في الله، وهو الولاء والبراء، من عرى الإيمان، بل من أوثقها.
- النصوص التي تنفي الإيمان عمن ترك أعمالاً من ولاء المؤمنين، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يُؤمنُ أحدُكُم حتّى يُحبّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لنَفسهِ)أخرجه البخاري برقم (13)، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه..
فالحديث نفى الإيمان عمّن لا يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، والحبّ في الله من جوهر الولاء، وبغضِّ النظر عن كون المنفي أصل الإيمان أم كماله؟ فهو صريح في جعل الولاء من الإيمان.
في هذه النصوص دلالة على أنّ الولاء والبراء من صلب العقيدة الإسلامية ومباحثها، وأنّ الخلل فيه يخدش العقيدة، وهذا المعنى يقرّره العقل والطبع السليم، لأنّ قناعات الناس مختلفة، وهذه القناعات والعقائد متصارعة متحاربة، وهذه سنّة الله -تعالى- في التدافع بين الناس، فإذا لم يكن المرء متمسّكًا بعقيدته، ومناصرًا أهلها، ومدافعًا من يحاربها ومتبرئًا منه، فلا معنى لإيمانه بهذه العقيدة، ولهذا يعتبر ولاء المرء لعقيدته وبراءته ممن يحاربها دليلُ صدقِ الانتماءِ لها والإيمانِ بها.
المطلب الرابع: التوفيق بين البراءة من الكفار والبر بهم
إنّ من أصول الشريعة ومبادئها السامية الإحسان للناس جميعًا، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة:83]، والقول الحسن نوع من الملاطفة والعلاقة الطيبة مع الناس، كما قال الحسن البصري رحمه الله: "لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه"تفسير الطبري (2 / 296)..
وأمر الله به لكل الناس، فقال {للناس} ولم يقل للمسلمين، قال عطاء بن أبي رباح: "من لقيت من الناس فقل له حسنًا من القول"، وقال: "قوله: {وقولوا للناس حسنًا}: للناس كلهم"تفسير الطبري (2 / 296)..
وصحيح أنّ هذا الكلام عن بني إسرائيل، وشرعهم ليس شرعًا لنا، إلا أنّه من مكارم الأخلاق، والأخلاق والعقائد واحدة في جميع الرسالات، وإنّما الخلاف في الأحكام العملية التشريعية، وهي التي يقال فيها: شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا.
يقول القرطبي: "وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طلقًا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأنّ الله -تعالى- قال لموسى وهارون: {فقولا له قولاً لينًا}، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله -تعالى- باللّين معه، وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنّك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيَّ حدّة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: {وقولوا للناس حسنًا}، فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي"تفسير القرطبي (2 / 16)..
ويقول الشيخ السعدي: "ومن القول الحسن: أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة، وغير ذلك من كل كلام طيب، ولـمّا كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار، ولهذا قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت:46]"تفسير السعدي ص (57)..
بل وصرّحت آية الممتحنة بطلب القسط في التعامل معهم وأنّه غير منهي عنه، فقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة:8-9].
وأمر بالإحسان للوالدين المشركين فقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: 15].
فأين موقع المعاملة الحسنة التي تبينها هذه الآيات من عقيد البراء من الكفار والمشركين؟
من نظر في النصوص كلها وتبيّن سياقها وألفاظها العربية يجد التوافق والانسجام والتكامل في نصوص البراء من الكافرين ونصوص البر والقسط لهم، لأنّها تكمل بعضها بعضًا، وترسم الصورة الكاملة للتشريع الإسلامي الحنيف الذي يحقق للمسلم هويته الخاصة والمستقلة، والعزة التي أكرمه الله بها بالإيمان، ولا تجعله ذليلاً ولا تابعًا للكافر، ولا يلوث قلبه الذي تطهر بالإيمان بحبِّ ومودة الكافرين، وكذلك تحقق له شخصيته النبيلة الكريمة التي تفيض كرمًا ولطفًا وحسنًا بالقول والعمل مع كل الناس، وتجعل من سلوكه ومعاملته عامل جذب للناس لدين الإسلام، وليس ثمّة تناقض بين هذه النصوص إلا في مخيلة من رسم من المسلم صورة الفظ الغليظ الجلف الذي لا يعرف إلا السيف و"جئناكم بالذبح"! أو صورة المسلم الذي ماعت وماهت هويته وصار كالماء يتلون بلون كل إناء يصاحبه.
فآيات البرّ والقسط والمصاحبة بالمعروف والقول الحسن، تكلّمت عن ظاهر الإنسان وما يبدو على جوارحه وما يصدر منه من فعل وقول للناس، فطلبت منه أن يحسن القول ويكون مصاحبًا بالخير، أما آيات البراء فنهت عن ميل القلوب للكافرين بالمودة والمحبة، والتي يلزم منها الرضى بما هو فيه من كفر، وكذلك نهت عن تقديم ما ينصره ويؤيّده في كفره وبقاء شوكته، أو ما يجعل منه آمرًا على المسلمين وحاكمًا، فتأمل آية الممتحنة حيث عبّر القرآن عن التعامل المأذون به (بالبر والقسط) وعن التعامل المحرّم والممنوع (بالتولي)، وشتّان بين المعنيين والحالين، وهذا ما قاله أهل العلم في بيان الحالتين.
قال الشيخ السعدي: "ولما نزلت هذه الآيات الكريمات، المهيّجة على عداوة الكافرين، وقعت من المؤمنين كل موقع، وقاموا بها أتمّ القيام، وتأثّموا من صلة بعض أقاربهم المشركين، وظنّوا أنّ ذلك داخل فيما نهى الله عنه، فأخبرهم الله أنّ ذلك لا يدخل في المحرم فقال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: لا ينهاكم الله عن البرّ والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين، من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإنّ صلتهم في هذه الحالة لا محذور فيها ولا مفسدة، كما قال -تعالى- عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلمًا: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، [وقوله:] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي: لأجل دينكم، عداوة لدين الله ولمن قام به، {وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا} أي: عاونوا غيرهم {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} نهاكم الله {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} بالمودة والنصرة، بالقول والفعل، وأما برّكم وإحسانكم الذي ليس بتولِّ للمشركين، فلم ينهكم الله عنه، بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم من الآدميين، وغيرهم"تفسير السعدي ص (856)..
وقال الشيخ الشنقيطي: "في هاتين الآيتينالآية 1، والآية 8، من سورة الممتحنة. صنفان من الأعداء وقسمان من المعاملة:
الصنف الأول: عدو لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم، فهؤلاء [قال] تعالى في حقهم: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم}.
والصنف الثاني: قاتلوا المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا على إخراجهم، وهؤلاء يقول تعالى فيهم: {إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم}.
إذًا: فهما قسمان مختلفان وحكمان متغايران، وإن كان القسمان لم يخرجا عن عموم: {عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} المتقدم في أول السورة"أضواء البيان (8 / 90)..
وتأمّل فهمه وتقسيمه، فهما حكمان متغايران، فالبِرّ غير التولي، وأطال الشيخ في الحديث والردّ بكلام جميل ماتع طويل يصعب نقله.
ويختصر الإمام الشافعي القضية بعبارة وجيزة فيقول: "وكانت الصلة بالمال والبر والإقساط ولين الكلام والمراسلة بحكم الله، غير ما نهوا عنه من الولاية، لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين"أحكام القرآن (2 / 193)..
وعقد القرافي في فروقه مبحثًا خاصًا لبيان الفرق بين حالة البر والقسط وحالة البراء، فعنون له بقوله: "(الفرق التاسع عشر والمائة بين قاعدة برّ أهل الذمة وبين قاعدة التودد لهم)" وقال فيه: "فلا بد من الجمع بين هذه النصوص، وإنّ الإحسان لأهل الذمّة مطلوب، وإنّ التودّد والموالاة منهي عنهما، والبابان ملتبسان فيحتاجان إلى الفرق"، ثم قال بعد أن بيّن أنّ عقد الذمة يتطلب منّا قتال من أرادهم بسوء: "وتعيّن علينا أن نبرّهم بكلّ أمر لا يكون ظاهره يدلّ على مودّات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدّى إلى أحد هذين امتنع وصار من قِبَلِ ما نُهي عنه في الآية وغيرها".
وبعد أن مثّل للممنوع بتوليهم الولايات وتعظيمهم، ومثّل للمأذون به بالرفق بضعيفهم وسدّ خُلّة فقيرهم، ذكر عبارة تصلح أن تكون ميزانًا للتفرقة، فقال: "وكلّ خيرٍ يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدو أن يفعله مع عدوه: فإنّ ذلك من مكارم الأخلاق، فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل، لا على وجه العزة والجلالة منّا، ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم، وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جُبلوا عليه من بُغضنا وتكذيب نبينا صلى الله عليه وسلم"الفروق (3 / 15)..
وقاعدة القرافي -رحمه الله- تقوم على ركنين:
- أنّ ما يستحسن فعله من الأعلى للأدنى فهو جائز، كجبر ضعيفهم، وسدّ حاجة فقيرهم، ولطف العبارة معهم. وكلّ ما يفعله الأدنى مع الأعلى كتعظيمه والتذلل له وتأميره فهو ممنوع ومحظور.
- لا بدّ من سلامة القلب من الركون لهم والرضى بكفرهم، وذلك باستحضار ما هم عليه من خبث معتقدٍ وتكذيبٍ للنبي صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة هذه المسألة: أنّ التعامل مع الكفار له محلّان وعملان، كما أشار لذلك كلام الشيخ الشنقيطي، أمّا المحلان فالقلب والجوارح، وأما العملان فالتولّي والبرّ، والجائز هو برّ الجوارح وقسطها، والمحظور التولي والذي يشمل برَّ القلب من المحبة، ونصرةَ الجوارح.
المطلب الخامس: درجات مخالفة الولاء والبراء
تبيّن مما سبق أنّ الولاء والبراء من عقيدة المسلم، وهما شرط في الإيمان، والمخالفة فيهما معصية لله، ولكن ما هي مراتب هذا العصيان؟ هل هي في مرتبة واحدة؟ أم أنّها متفاوتة: ففيها ما يعدّ كفرًا، ومنها ما هو دون ذلك من المعاصي؟
إنّ أصل الموالاة هو المحبة، وكذلك أصل البراء هو البغض، والحب والبغض أمران قلبيان، يدلّ عليهما ما يظهر على الجوارح من الأفعال، لأنّ عمل الجوارح أثر لعمل القلب، كما يقول ابن القيم: "فإنّ الإيمان علم وعمل، والعمل ثمرة العلم، وهو نوعان: عمل القلب حبًا وبغضًا، ويترتب عليهما عمل الجوارح، فعلاً وتركًا، وهما العطاء والمنع"إغاثة اللهفان (2 / 124)..
ولكنّ هذا لا يعني التلازم التامّ بين الموالاة والمحبّة، وبين البراء والبغض، فهناك من يوالي الكافر محبّة لدينه ورضىً بكفره، وهو دافع قلبي، وهناك من يواليه لدنيا يريدها منه ولا يحبه ولا يحب دينه، وهذا دافع قلبي آخر مختلف، وهناك من يواليه لسبب ما، كقرابة أو صداقة، مع عدم ميل قلبه له.
ولما كانت موالاة الكفار تقع على شعب متفاوتة، وصور مختلفة، لذا فإنّ الحكم فيها ليس حكمًا واحدًا، فإنّ مِنْ هذه الشُعَب والصور ما يوجب الردة، ومنها ما هو دون ذلك من المعاصي.
وأقوال أهل العلم في بيان هذه المسألة كثيرة، منها:
- قول القرطبي: "يدلّ بهذا على أنّ من اتخذ كافرًا وليًا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله"تفسير القرطبي (6 / 254).، فرتّب الحكم بالكفر على من يوالي الكافر إذا اعتقد اعتقاده ورضي بأفعاله، دون غيره من الأسباب.
- وقال الفخر الرازي: "المعنى أنّه لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله، وذلك لأنّ من أحبّ أحدًا امتنع أن يحبّ مع ذلك عدوه، وهذا على وجهين:
أحدهما: أنّهما لا يجتمعان في القلب، فإذا حصل في القلب وداد أعداء الله، لم يحصل فيه الإيمان، فيكون صاحبه منافقًا.
والثاني: أنهما يجتمعان ولكنه معصية وكبيرة، وعلى هذا الوجه لا يكون صاحب هذا الوداد كافرًا بسبب هذا الوداد، بل كان عاصيًا في الله"مفاتيح الغيب (29 / 499).. وهو وإن لم يبين الفارق بين الأول الذي هو النفاق، والثاني الذي هو معصية، لكنّه ظاهر.
ويقول الشيخ السايس: "والموالاة لهم بمعنى الرضا بكفرهم ومصاحبتهم لذلك: كفرٌ، لأنّ الرضا بالكفر كفر، فلا يبقى المرء مؤمنًا، مع كونه بهذه الصفة"أحكام القرآن ص (190-191).. فجعل الرضا -وهو ميل القلب ومحبته واستئناسه- علّة للموالاة المكفرة.
ويؤكد هذه المعنى -أيضًا- قول القرطبي: "مَن كَثُرَ تطلّعه على عورات المسلمين وينبّه عليهم ويعرّف عدوَّهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرًا إذا كان فعله لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب [رضي الله عنه] حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينوِ الردّة عن الدين"أحكام القرآن لابن العربي ( 4 / 225)، تفسير القرطبي (18 / 52).. فبيّن أنّ التجسس إن كان لأمر دنيوي فليس بكفر بل هو معصية، ويفهم منه أنّه كفر إن كان لأمر ديني كمحبته ومناصرته لدينه.
ويبيّن هذا بعبارة أوضح وأصرح شيخُ الإسلام ابن تيمية فيقول: "شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف، فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} وقال: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}، وقد تحصل للرجل موادّتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لـمّا كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}، وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبيّ في قصة الإفك، فقال: لسعد بن معاذ: كذبت والله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحميّة"مجموع الفتاوى (7 / 523)..
وقد جاء في حديث حاطب رضي الله عنه: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟) قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرًأ ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتّخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد صدقكم)اخرجه البخاري برقم (3007)، كتاب الجهاد، باب الجاسوس.، وفي لفظ آخر: قال حاطب: (والله ما بي أنْ لا أكون مؤمنًا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق، ولا تقولوا له إلا خيرا)أخرجه البخاري برقم (3983)، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرًا..
لقد بيّن حاطب -رضي الله عنه- أنّ دافعه لما فعله لم يكن رضًا بالكفر، ولا رغبة عن الإسلام، وإنّما لأمر دنيوي، فدلّ هذا أنّ المقصد والدافع القلبي هو الذي يحدّد حكم ونوع الموالاة، فلو كان دافعه رغبة عن الإسلام وحبًا في الكفر لكان كفرًا وردّةً، وإن لم يكن هذا هو الدافع، بل لأمر دنيوي لم يكن كفرًا بل معصية، وقد أقرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حاطبًا على هذا التقسيم، وعلى تبرئة نفسه من الكفر والردة، وقال: (صدقكم).
ومن ناحية أخرى قد يفعل الإنسان الولاء مكرهًا ومضطرًا، فيعذر بذلك ولا يكون آثمًا، فضلاً عن أن يكون كافرًا، كما قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}[آل عمران:28]، وتقدّم الحديث عن التقية. وما أبيحت التقيّة إلا لضرورة الخوف على النفس، فكان كل ما في معنى الخوف من الإكراه مبررًا للتقية.
ويعضد ذلك أنّ الكفر يباح حالة الإكراه، لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106]، فإن كانت المولاة من الكفر فهي في الإكراه مباحة.
ونخلص من هذه المناقشة إلى أنّ موالاة الكفار ليس على درجة واحدة:
- فموالاة الكافر محبةً في دينه ورضىً بكفره، هي كفر وردّة بالاتفاق.
- وموالاة الكافر لغرض دنيوي يريده منه، أو لحمية قبلية، هو معصية وكبيرة وليست كفرًا.
- ومولاة الكافر للضرورة كالخوف والإكراه جائزة.
- أما الإحسان والبرّ بالكافر غير الحربي فجائز لا حرج فيه، وليس هو من الموالاة أصلًا.
وفي المقابل: البراءة من المؤمن وبغضه لها أحكام متفاوتة:
- فتكون ردّة عن الدين إن كان بُغْضُهُ وخُذلانه وظلمُه للمسلم بسبب إسلامه وإيمانه، وهذا كحال الذين يسيمون المؤمنين المستقيمين على الدين سوء العذاب، ويقتّلونهم، وما نقموا منهم إلا أنّهم أطاعوا الله ورسوله والتزموا شريعته.
- وتكون معصية وكبيرة إن أبغضَه وظلمَه وخذلَه لتحقيق مصلحة دنيوية، كمن يوالي الكفار على المسلمين لأمر دنيوي، ومن يسيء للشباب المستقيمين على الدين، لا نقمة على دينهم وإنما ليتقرب للكفّار بذلك، وكمن يخذل المسلمين المعذّبين وهو قادر على نصرتهم، حتى لا يتضرّر من ذلك، ولينال رضى النظام العالمي.
وكذلك هو معصية إن ظلم وهو مُكره على ذلك، لأنّ أذى المسلم للضرورة والإكراه لا يجوز، فليس المسلم الذي يريد إيذاءه بأقل منه، وله تفاصيل في باب الإكراه في الفقه.
- وجائزة إن أبغضه لسبب طبيعي، من غير أن يترتّب عليه أذى أو ظلم، أو موالاة عدوّه الكافر، وسيأتي الحديث عن الحب والبغض الطبيعيين.
المطلب السادس: الحبّ والبغض الطبيعيان
الحبّ والبغض من أعمال القلوب، والقلب بيد الله يصرفه كما يشاء، فقد يقذف الله بالقلب حبّ شخص بطبيعة الخلقة، كحبّ الوالدين للولد وحب الولد لهما، وقد يأتي عفوًا بلا سبب، وقد يأتي لسبب يحدث بين المرء ومن أحبه، لأنّ القلب أسير الإحسان والإساءة، فيميل لحب من أحسن إليه وبغض من أساء إليه، كما قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبدْ قلوبِهُمُ
فطالمـا استعبد الإنسـانَ إحسـانُ
وكما قال ابن المبارك: "اللهم لا تجعل لصاحب بدعة عندي يدًا فيحبّه قلبي"شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1 / 158).، لأنّ فضله سيؤثر في القلب فيحبّه، وليس للمرء سلطان على قلبه، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي، فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي، فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ)، رواه أبو داوود، وقال: "يَعْنِي الْقَلْبَ"أخرجه أبو داود برقم (2134)، كتاب النكاح، باب القسم بين الزوجات.، فالقلب لا يملكه صاحبه، وقد كان النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- يحبّ عائشة -رضي الله عنها- أكثر من غيرها من نسائه، لكن كان يعدل بينهنّ.
وقد تتولّد المحبّة نتيجة ذكر إحسان شخص أو التفكّر في محاسنه، كما تتولّد الكراهية من ذكر إساءته أو التفكّر في مساوئه، لهذا قال ابن حجر في شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)أخرجه البخاري برقم (15)، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: "وفي هذا الحديث إيماءٌ إلى فضيلة التفكّر، فإن الأحبِّيَّة المذكورة تُعرف به"فتح الباري (1 / 59)..
ومن هنا يمكن القول إنّ الحب من حيث المنشأ نوعان:
- حبّ طبيعي لا يملك المرء فيه قلبه، كالذي يحدث للمرء بفطرته كحبّ الوالدين، أو بتأثّره بالإحسان.
- حبّ اختياري مكتسب يأتي للمرء بالتفكّر فيمن أحبّه.
ومحل البحث في هذه النقطة: هل يلام الإنسان لو أحبّ كافرًا حبًّا طبيعيًا؟ وهل هذا من الولاء المحرّم؟
لو تأمّلنا قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56] سنجد أنّها تشير إلى جواز هذا النوع من المحبة، لعدم ورود الإنكار عليه في الآية.
قال الطبري: "(لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) هدايته (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أن يهديه من خلقه، بتوفيقه للإيمان به وبرسوله. ولو قيل: معناه: إنك لا تهدي من أحببته لقرابته منك، ولكن الله يهدي من يشاء، كان مذهبًا"تفسير الطبري (19 / 598)..
وقال ابن الجوزي: "وفي قوله تعالى: مَنْ أَحْبَبْتَ قولان: أحدهما: من أحببتَ هدايته، والثاني: من أحببتَه لقرابته"زاد المسير (3 / 388)..
وقال السعدي: "يخبر -تعالى- أنّك يا محمد -وغيرك من باب أولى- لا تقدر على هداية أحد، ولو كان من أحبّ الناس إليك"تفسير السعدي ص (620)..
فالآية تحتمل التفسيرين، وفيها دلالة على حبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمّه أبي طالب وهو كافر، وهذا من الحب الطبيعي بسبب القرابة، وبسبب ما قدّمه عمه له من حماية ومعونة، وهو إحسان لا يملك القلب إلا أن يحبّه بسببه. وإنكار محبّة النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب مكابرة، فلولا حبّه له ما حرص على هدايته حرصًا شديدًا زائدًا على الحرص العام لكل الناس، ومن تأمّل عباراته الرقيقة له وهو يطلب منه أن يلفظ الشهادتين عند موته عَلِمَ ذلك.
ومن الأدلة على ذلك: أنّ الله أباح للمسلم أن يتزوّج الكتابية بشرط الإحصان، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة: 5] والعلاقة الزوجية يترتّب عليها حدوث المحبّة والمودة، وإلا لما استمرت.
ولا يلزم من هذه المحبّة الطبيعية أن يكون معها مودّة ومحبّة شرعية، بل تجتمع في الزوجة الكتابية محبّتها لكونها زوجة، وبغضها لكفرها بغضًا دينيًّا ولا تعارض بين الأمرين.
إنّ الحب الفطري غريزة في الإنسان، وكذلك الحب الذي يتولد من إحسان الشخص فيؤثر في القلب ولا يمكن دفعه، وهذا اللون من الحب لا يناقض البراء، ولا حرج فيه، وإن كان على المرء أن يدفع ما قد يترتّب عليه بالتفكّر بما في الكافر من خبث الكفر وسوء المعتقد حتى لا يركن قلبه له، ويسوقه لولائه فيما هو محرّم.
ومثل الحب الطبيعي: البغض الطبيعي، الذي يتولّد لسبب دنيوي لا علاقة له بدين، وأحيانًا يكون نفرة من الشخص بدون أن يكون تَسَبَّبَ له بما يسيئه، كما في حديث ابن عباس أنّه قال: (جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكنّي لا أُطِيقُهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَترُدِّينَ عليه حديقتهُ؟ قالت: نعمأخرجه البخاري برقم (5275)، كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق.، فردَّت عليهِ، وأمرهُ فَفَارَقَهَا)أخرجه البخاري في الموضع السابق برقم (5276)..
وكذلك في حديث ابن عباس أيضًا: (أنّ زوج بَرِيْرَة كان عبدًا يقال له مُغِيث، كأنّي أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لعباس: (يا عباس، ألا تعجبُ من حُبّ مُغيث بَرِيَرة، ومن بُغْض بَرِيْرَة مُغِيْثًا)؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو راجعته) قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: (إنما أنا أشفع) قالت: لا حاجة لي فيهأخرجه البخاري برقم (5283)، كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة..
فبريرة وامرأة ثابت أبغضتا زوجيهما، وهما مسلمان صحابيان، وهو بغض طبيعي قد لا يملك الإنسان دفعه، وأقرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا البغض، فدلّ على جوازه، وإن كان خلاف الأصل.
قال الأحوذي في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ)أخرجه البخاري برقم (3783)، كتاب مناقب الأنصار، باب حبّ الأنصار.: "قال ابن التّين: المراد حبّ جميعهم وبغض جميعهم، لأنّ ذلك إنّما يكون للدين، ومن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ البغض له فليس داخلاً في ذلك، وهو تقرير حسن"تحفة الأحوذي (10 / 274)..
وخلاصة هذه المسألة: أنّ الحب حبّان، والبغض بغضان، حبٌ وبغضٌ طبيعي، وحبٌ وبغضٌ شرعي وهو الذي يكون للدين، ولا حرج في الطبيعي منهما ما لم يؤثر على الشرعي، إذ لا تعارض بينهما. ولا يمنع الحب الطبيعي من البغض الشرعي، ولا البغض الطبيعي من الحب الشرعي، ولكن على المؤمن أن يحرص على قلبه وهواه ومشاعره حتى يبقى دائرًا مع الشرع وأحكامه، ولا يؤثر الطبيعي على الشرعي.
ونظير هذه المسألة في اجتماع المتعارضين، اجتماع الولاء والبراء للمسلم الفاسق، فهو من حيث إسلامه يجب له الولاء الشرعي، ومن حيث فسقه يجب فيه البغض الشرعي، ولا يمنع أحدهما الآخر، فيحب فيه إسلامه، ويُنصر على الكافر، وله حقوق المسلم، ويُبغض لمعصيته وفسقه، ويجوز هجره لذلك، وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنّة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنّة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة"مجموع الفتاوى (28 / 209)..
وقال: "والواجب على كل مسلم أن يكون حبّه وبغضه، وموالاته ومعاداته تابعًا لأمر الله ورسوله، فيحبّ ما أحبّه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله. ومن كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفسّاق أهل الملة، إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحبّ والبغض، بحسب ما فيهم من البرّ والفجور"مجموع الفتاوى (35 / 94)..
فلا يمنع عصيانه وفسوقه من ولائه لإسلامه وخيره، ولا يمنع إسلامه وخيره من بغضه لشره وعصيانه، وكذلك الأمر في الحب والبغض الطبيعي والشرعي.
المطلب السابع: الغلوّ في الولاء والبراء
إنّ عقيدة الولاء والبراء كما سبق عرضها وبيانها من نصوص الشريعة وفهم أهل العلم، تمثّل وسطية الإسلام وقوته وعزته، التي تجمع بين الاعتزاز بالهوية والتمسك بالمبادئ وتقي من الذوبان في الآخرين، وتحقق تماسك بنيان المجتمع المسلم وتلاحم أبنائه، وبين المعاملة الحسنة مع المخالفين والقدرة على التعايش معهم والاستفادة منهم.
لكنّ أهل الغلو سواء أهل الإفراط أو أهل التفريط، خالفوا في فهم هذه العقيدة والعمل بها، بسبب قصور الفهم وأُحادية النظر، فوقع أهل الإفراط في غلظة وتشدد، ووقع أهل التفريط في جفاء وانسلاخ من الهوية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وكلاهما أضرّ بالأمة.
غلوّ الإفراط
أما غلو الإفراط الذي سار عليه أتباع الخوارج وأهل التكفير، فمنشؤه من الأمور التالية:
- عدم فهم علّة ومناط التكفير في موالاة الكفار، والتي سبق تقريرها بأنّها: الرضا بدين الكافر ومحبّة ما هو عليه من الكفر والضلال، وأما الموالاة التي ليس فيها ذلك فليست بكفر.
- عدم التمييز بين درجات الموالاة، وهو خطأ ناشئ عن الأول، فجعلوا كل علاقة مع الكافر كفرًا وردة، حتى قال غلاة التكفير في الثورة السورية بردّة من اجتمع بالأمريكان، أو فاوض في المؤتمرات! مع أنّ هذا الاجتماع أو التفاوض لم يقل أحدٌ من أهل العلم بحرمته فضلًا عن كونه ردة، وليس هو من الموالاة لا لغةً ولا شرعًا. وجعلوا أخذ السلاح موالاة وردّة، مع أنه من أمور المعاملات ولا يدخل في معنى الموالاة. وجعلوا إقامة العلاقات السياسية مع الدول ردّة وكفرًا. وإلى غير هذا من الجهالات والحماقات.
- عدم فهم الواقع للتمييز بين حالات التقيّة وحالات الموافقة، وبين حالات الإكراه وحالات الرضا، وهو نتيجة عدم إدراكهم لما عليه المسلمون من استضعاف وتشرذم، ولما عليه أهل الباطل من قوة وإجرام، فحكموا على كل من دخل في المنظومة الدولية بالكفر والردّة لأنّهم رأوها موالاة للكفار ونصرة لمعتقدهم الكافر! وحكموا على كل من صرّح بمعتقد باطل كالديمقراطية والدولة الوطنية بالردّة لأنّه سار مع الغرب في معتقداتهم ووالاهم في كفرهم! مع أنّ الحكم على من يقول بذلك من المسلمين لا يتم إلا بعد بيان الحق له، ومعرفة مراده ومفهومه لهذه المصطلحات فقد يكون مراده بالديموقراطية -مثلًا- وسائل الحكم وأدواته لا أصل الحكم بالقوانين الوضعية، ولا يتم -أيضًا- إلا بعد معرفة حاله على فرض القول بكفره: هل يدخل في باب الإكراه والتقيّة أم لا؟ ولكن هذه التحريرات بعيدة عن فقه وفهم أهل الغلو، فجعلوا الكل في كفّة واحدة، وهي إطلاق الحكم بالكفر والردّة.
- عدم التمييز بين معاملة الكافر وبرّه والإحسان إليه، وبين البراءة منه، وعدم التمييز بين الكافر الحربيّ وغير الحربيّ، حتى عمَّ القتلُ ونهبُ أموال أهل الكتاب المقيمين في بلاد المسلمين وهم غير حربيين، وتكفير من يحسن إليهم بزعم موالاتهم الموالاة المخرجة من الملّة، مما أدى إلى تنفير المسلمين قبل أهل الكتاب من دين الإسلام.
لعل هذه أهم الأسباب التي نشأ منهم إفراط أهل الغلو والتكفير في عقيدة الولاء والبراء.
غلوّ التفريط
أما غلوّ التفريط فهو في مقابل الإفراط، حيث بدأت تعلو أصوات تحارب عقيدة الولاء والبراء، ومنشؤه أيضًا قريب من منشأ الأول.
- فلم يفرّقوا بين موالاة الكفار والإحسان إليهم، فجعلوا كثيرًا من الأعمال التي هي من الرضا والقبول بكفر الكفّار من باب البرّ والإحسان إليهم! كإقرارهم على عقائدهم، ومشاركتهم عباداتهم وأفراحهم الدينية في معابدهم.
- ولم يقرقوا بين درجات المولاة، فاعتبروا أنّ كلّ موالاة لا يقصد صاحبها الرضا بالكفر: جائزة، مع أنّ بين الجواز والكفر حالات كثيرة محرّمة، يستحق صاحبها العقوبة في الدنيا والآخرة إن لم يتب، ولم يكن قد فعلها مكرهًا.
وكان من مظاهر وآثار أهل التفريط:
- محاربة عقيدة الولاء والبراء، واعتبارها منافية لسماحة الإسلام ورحمة رسالته، وأنّها لا تتناسب مع أدبيات القرن الحديث. وهم لا يقصدون بذلك محاربة الغلاة أهل الإفراط، بل يقصدون إلغاء أصل عقيدة الولاء والبراء، ولو كان قصدهم بذلك محاربة أهل الغلو والإفراط لكان كذبًا منهم وتدليسًا، لأنّهم يوهمون المسلمين أنّ ما عليه أهل الإفراط من الغلط في هذا الأمر هو الولاء والبراء الشرعيّ! ثم يعملون في سبيل محاربة هذا الغلو على محاربة أصل عقيدة الولاء والبراء الثابتة بالكتاب والسنّة، فشأنهم في ذلك كشأن أعداء الإسلام إذ يحاربون الإسلام بذريعة الخوارج والإرهاب.
- الدعوة والعمل على نشر معتقدات وسياسات تنافي الولاء والبراء، كتحريم تكفير أهل الكتاب!! وجواز تولّيهم قيادة المسلمين، وجواز التزاوج بينهم!! والمشاركة في مناسباتهم وشعائرهم الدينيةكما خرج كبير هؤلاء على إحدى القنوات الفضائية، وأدّى مع القسيسين قراءة الفاتحة والصلوات النصرانية!! وكما ذهب آخر ليحضر قدّاسًا لهم في كنيستهم ليعبّر عن سماحة الإسلام!!.
ومن هذا القبيل: بعض الدعوات السياسية لقبول العلمانية ودولة المواطنة والديمقراطية، ولو طرحت على أنّها من باب الضرورة كلحم الخنزير، أو أنّ واقع المسلمين لا يسمح بغير هذا فنضطر للدخول بها، لكان لها مكان في التأويل والعذر، أمّا أن تطرح على أنّها حلال، ومن باب الاختيار لا الاضطرار، وأنّها لا تنافي الإسلام ومبادئه فهنا الكارثة.
- محاربة الصادقين والمتمسّكين بعقيدة الولاء والبراء على نقائها وسلامتها، وجعلهم مع غلاة الإفراط في صفّ وحكم واحد، وهذا غلوّ مقيت لا يقل خطرًا عن الغلو الأول.
الولاء والبراء على الحزب والجماعة:
ولا بدّ من الإشارة في هذه النقطة إلى خطأ وقعت به الجماعات والأحزاب الإسلامية في مفهوم الولاء والبراء، حيث نقلت مفهوم الولاء من موالاة المسلمين، إلى موالاة أبناء الجماعة والحزب، وإن كان في هؤلاء من يجب فيهم بعض البراء، لما هم عليه من ظلم وسيئات!
ونقلت مفهوم البراء من البراء من الكافرين إلى البراء ممن خالف الجماعة أو لم يكن في صفوفها وإن استحق من الفضل والخير ما يوجب ولاؤه والتمسك به! أي جعلوا الولاء والبراء على الجماعة والحزب، وليس على الدين، فصارت هذه الجماعات عثرة في طريق الأمّة، وعبئًا ثقيلًا على كاهلها.
ولئن كانت الجماعات والأحزاب تجوز من باب التعاون على البرّ والتقوى والخير، فإنّها تغدوا محرّمة لو كانت سببًا في ذهاب البرّ والتقوى.
وما أروعه من كلام وفقه لابن تيمية حيث يقول: "وأما (رأس الحزب) فإنّه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا، مثل التعصّب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمّن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرّق الذي ذمّه الله تعالى ورسوله، فإنّ الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان"مجموع الفتاوى (11 / 92)..
ولقد ابتليت الأمّة عامة والثورة السورية خاصّة بالكثير من هؤلاء، ممن جعل جماعته وحزبه معقّد الولاء والبراء، وغيّر الأحكام والفتاوى على حسب تغيّر موقع جماعته منها، فهذا من الكذب والتدليس في الدين، والتلاعب والتجارة به، كحال المقدسيِّ والفلسطينيِّ ومرقّعي القاعدة. ورؤوسُ الجماعات الأخرى ليسوا أحسن منهم حالًا في هذه الحيثية.
المطلب الثامن: فروق متمّمة
سبق في أثناء البحث بيان الفرق بين البراء من الكفار والبر بهم، ونذكر هنا بعضًا من الفروق المتمّمة للمسألة لتتضح حقيقة الولاء والبراء كما هي، من غير لَبْس ولا تخبّط.
أولاً: الفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق
كثيرًا ما ترد في كتب أهل العلم -ولا سيما كتب الاعتقاد- عبارة: الفرق بين الشيء المطلق ومطلق الشيء، كالتفريق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، والشرك المطلق ومطلق الشرك، ونحو هذا، فما الفرق بين الشي المطلق ومطلق الشيء؟جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (5/164): "الشيء المطلق عبارة عن الشيء من حيث الإطلاق، وهو ما صدق عليه اسم الشيء بلا قيد لازم، ومنه قول الفقهاء: يرفع الحدث بالماء المطلق أي غير المقيد بقيد، فخرج به ماء الورد، وماء الزعفران، والماء المعتصر من شجر أو ثمر، وكذلك الماء المستعمل عند أكثر الفقهاء؛ لأنّها مياه مقيّدة بقيد لازم لا يطلق الماء عليه بدونه، بخلاف ماء البحر وماء البئر وماء السماء ونحوها؛ لأنّ القيود فيها غير لازمة، وتستعمل بدونها، فهي مياه مطلقة. أما مطلق الشيء فهو عبارة عن الشيء من حيث هو من غير أن يلاحظ معه الإطلاق أو التقييد، فيصدق على أي شيء مطلقًا كان أو مقيدًا، ومنه قولهم: مطلق الماء، فيدخل فيه الماء الطاهر والطهور والنجس وغيرها من أنواع المياه المقيدة (كماء الورد والزعفران) والمطلقة. فالشيء المطلق أخصّ من مطلق الشيء (الشامل للمقيد). ومثل ذلك ما يقال في البيع المطلق، ومطلق البيع، والطهارة المطلقة، ومطلق الطهارة وأمثالها". وقال التهانوي الحنفي في شرح معنى المطلق: "يطلقونه على المعنيين، أحدهما الطبيعة المطلقة وهي الطبيعة من حيث الإطلاق لا بأن يكون الإطلاق قيدًا، لها وإلّا لا تبقى مطلقة، بل بأن يكون الإطلاق عنوانًا لملاحظاتها وشرحًا لحقيقتها، وثانيهما مطلق الطبيعة أي الطبيعة من حيث هي من غير أن يلاحظ معها الإطلاق، وبهذا ظهر الفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق". كشاف اصطلاحات العلوم والفنون (2 / 1567). وما علاقته بمسألة الولاء والبراء؟
معنى هذه الكلام باختصار: أنّ الشيء المطلق هو الشيء الكامل، ومطلق الشيء هو أدنى ما يوجد فيه مسمّى هذا الشيء، فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، وهو يصدق على الصالحين والمتّقين، ومطلق الإيمان هو أدنى ما يسمى به العبد مؤمنًا، وهو الذي يخرجه من الكفر، فيدخل فيه العاصي والفاسق، فالفاسق عنده مطلق الإيمان وليس عنده الإيمان المطلق.
وهنا في مسألتنا، يجب أن نفرّق بين الموالاة المطلقة للكافر ومطلق الموالاة:
فالموالاة المطلقة تعني المحبّة الكاملة والنصرة التامة لهم، وتكون بموافقة القلب لما هم عليه والرضا به وتأييد الجوارح لهذا.
أما مطلق الموالاة فهي كل صورة يوجد فيها أدنى معنى للموالاة، وهي شعب كثيرة بحسب قدر الموالاة التي تتحقق: فمنها موالاة محرّمة كموالاة حاطب رضي الله عنه، ومنها جائزة كالبر والإحسان للقريب الكافر كما سبق.
وقد سبق بيان كلام أهل العلم أنّ الكفر يتحقق بثبوت معنى الموالاة المطلقة، وأما مطلق الموالاة فهي محرّمة وقد تكون جائزة، كما سبق، وفي إعادة النظر في كلام أهل العلم السابق الذي يبيّن مناط الكفر في الموالاة يتبين المقصود.
وجهل الغلاة لهذا الفرق وتسويتهم بين مطلق الموالاة والموالاة المطلقة، جعلهم يكفّرون كل من وُجدت فيه موالاة للكفار، حتى أنّ أحدهم في مناقشته لحديث حاطب، كاد أن يكفّره رضي الله عنه، لكن منعه الحديث الصحيح الصريح، فراح يتعسّف في التأويل ليجعل حديث حاطب خاصًّا لا يقاس عليه مثله وما في معناهانظر كتاب المعلم في حكم الجاسوس المسلم لأبي يحيى الليبي، في فصل حكم الجاسوس المسلم..
ونظير هذه المسألة: مسألة الشرك المطلق ومطلق الشرك، فالشرك المطلق هو الشرك الذي تحقق عاريًا عن ملابسات قيود تقصر أو تقلل من ماهيته، أي أشرك صاحبه بقصد وعمد وبلا جهل ولا تأويل ولا أي مانع من الموانع، فهذا الشرك الذي يوجب لصاحبه الخلود من النار.
أما مطلق الشرك فهو أي معنى وجد فيه شرك، وهذا له صور ومراتب، بل بعض صوره لا يسلم منها المؤمنون الأتقياء، كالرياء مثلًا، فهو من الشرك.
فلو اعتبرنا مطلق الشرك موجبًا للخلود في النار لما سلم منا إلا بقية السلف الصالح.
ثانيًا: الفرق بين الكفر العملي والاعتقادي
الكفر نوعان: اعتقادي وهو المخرج من الملة، ومحلّه القلب أي الاعتقاد، وعملي ومحلّه الجوارح، وهو معصية ومحرّم ولا يكون مخرجًا من الملة.
قال ابن القيم: "الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد،
فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أنّ الرسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا من أسماء الربِّ وصفاته وأفعاله وأحكامه، وهذا الكفر يضادّ الإيمان من كل وجه.
وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضادّ الإيمان وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبيّ وسبّه يضاد الإيمان، وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعًا ... وهذا الكفر [أي العملي] لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملّة بالكلية، كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملّة وإن زال عنه اسم الإيمان، وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمّة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإنّ المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين:
فريقًا أخرجوا من الملّة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار! وفريقًا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان! فهؤلاء غلوا وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنّة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في إذنه كالإسلام في الملل، فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك وفسوق دون فسوق وظلم دون ظلم"الصلاة وأحكام تاركها ص (56 - 57)..
وقال ابن رجب: "إِنْ ورد الكفر مقيّدًا بشيء فلا إشكال في ذلك كقوله تعالى {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ}[النحل: 112]. وإنما المراد هاهنا: أنّه قد يرد إطلاق الكفر ثم يفسّر بكفر غير ناقل عن الملة، وهذا كما قال ابن عباس في قوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون}[المائدة: 44] قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس بكفر ينقل عن الملة"فتح الباري لابن رجب (1 / 137)..
وهذا التفصيل في كلام أهل العلم كثير وواضح، فالكفر الاعتقادي هو المخرج من الملة، وأمّا الكفر العملي فليس مخرجًا من الملة بمجرّد الفعل، بل هو معصية.
وعلى هذا قد يجتمع في المرء كفر وإيمان، بأن يكون فيه مطلق الإيمان ومطلق الكفر، ولا يكون فيه الكفر المطلق ولا الإيمان المطلق، يقول ابن تيمية: "وتمام هذا: أنّ الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان وشعبة من شعب النفاق، وقد يكون مسلمًا وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال الصحابة: ابنُ عباس وغيره: كفر دون كفر، وهذا قول عامة السلف، وهو الذي نصّ عليه أحمد وغيره"مجموع الفتاوى (7 / 351)..
ومسألة موالاة الكفار: فيها جانب عملي وجانب اعتقادي:
فالموالاة التي فيها محبة قلبية لما عليه الكفار من الكفر والضلال، ومناصرة لكفرهم لتعلو رايته على راية الإسلام، فهذا كفر اعتقادي مخرج من الملة.
وما كان منه موالاة لهم ومناصرة من أجل حظّ دنيوي، أو لسبب آخر ليس فيه دلالة اعتقادية على الرضا بكفرهم، فهذه موالاة عملية، وهي معصية وكفر عملي ليس مخرجًا من الملة، ثم في الموالاة العملية نظر آخر، وهو اعتبار حال المسلم الموالي هل هو مكره أو متأول أو لا؟ وسبقت الإشارة إلى هذه فيما تقدم.
وعدم التفريق بين هذين الأمرين والخلط بينهما، هو ما أوقع الغلاة في تكفير كل من وقع في موالاة للكفار، إذ جعلوا الموالاة لونًا واحدًا، وكلها تدخل تحت الموالاة الاعتقادية المخرجة من الملة!
ثالثًا: الفرق بين وجود العداوة وإظهارها
بمقتضى عقيدة الولاء والبراء فإنّ المسلم مأمور بأن يتبرّأ من الكافرين ويبغضهم بحسب مراتبهم في الكفر، وأن يعلن ذلك لهم، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة: 4].
قال السعدي في تفسير هذه الآية: "إذ تبرأ إبراهيم -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله، ثم صرّحوا بعداوتهم غاية التصريح، فقالوا: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا} أي: ظَهَرَ وبانَ {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} أي: البغض بالقلوب، وزوال مودتها، والعداوة بالأبدان، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حدّ، بل ذلك {أَبَدًا} ما دمتم مستمرين على كفركم {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي: فإذا آمنتم بالله وحده، زالت العداوة والبغضاء، وانقلبت مودّة وولاية، فلكم أيها المؤمنون أسوة [حسنة] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد، والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته"تفسير السعدي ص (854)..
درجات إظهار البراءة وطرقها:
الكفار من حيث العلاقة معهم نوعان: محاربون ومعاهَدون:
فأما المحاربون: فيجب البراءة منهم بكل أنواع البراءة وصورها، بدءًا بإعلامهم بعقيدتنا فيهم وبدينهم، وأنّنا نبغضهم في الله لما هم فيه من الكفر، وأن نظهر عداوتنا لهم لكونهم محاربين، ونواجههم بها في كل حين، وأعلاها: قتالهم وإرهابهم وإذلالهم.
وأما غير الحربيين كالمعاهَدين وأهل الذمّة والمستأمنين فتكون البراءة منهم بأمور، أهمّها:
- إعلامهم بعقيدتنا فيهم وفي دينهم، وأنّنا نبغضهم في الله لما هم فيه من عقيدة الكفر بالله.
- هجر ما هم عليه من الباطل، فلا نشاركهم في عباداتهم، ولا أعيادهم، ولا نهنّئهم بها، ولا نتشبّه بهم، بل نعلن مخالفتهم ومفارقتهم في كلّ أمورهم، كما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلّم، حتى قال اليهود: (مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ)رواه مسلم برقم (302)..
- أن لا نستغفر لهم، ولا نترحّم عليهم، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[التوبة: 113]، لكن ندعو لهم بالهداية وصلاح البال، فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: كان اليهودُ يَتَعَاطَسُونَ عند النّبيِّ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- يَرجُون أن يقول لهم: يرحمكم اللهُ، فيقول: (يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ)رواه الترمذي برقم (2739)، وقال: هذا حديث حسن صحيح..
- أن لا يكون لهم شأن في إدارة أمور المسلمين والاطلاع على أسرارهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}[آل عمران: 118]وقد بيّن سبحانه بعد هذه الآية سبب ذلك، فقال: {هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [آل عمران: 119 - 120]..
- عدم المداهنة والمجاملة والمداراة لهم على حساب الدين.
- أن لا نعظّمهم بلفظ أو فعل، ولا نبدأهم بالسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)رواه مسلم برقم: (2167). قال القرطبي في المفهم (3/179) في معنى: (فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ): "أي: لا تتنَحّوا لهم عن الطريق الضيِّق إكرامًا لهم واحترامًا، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى والعطف، وليس معنى ذلك أنّا إذا لقيناهم في طريقٍ أنّا نُلجئهم إلى حرفِه حتى يضيق عليهم؛ لأنّ ذلك أذى منّا لهم من غير سبب، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب"..
- العدل معهم، وعدم ظلهم، أو منعهم من حقوقهم والبرّ بهم والإحسان إليهم، كما قال تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة: 8]، وقال في شأن الوالدين المشركَيْن: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: 15].
إعلان البراءة من الكفار والجهر بها:
إعلان البراءة من الكفار والجهر بها -عندما يقتضي الأمر ذلك- مأمور به شرعًا، للآية السابقة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ...}، وعليه فإنّ وجود البراءة في القلب من غير إعلانها وإظهارها غير كافٍ لتحقيق كمالها.
غير أنّ إعلان البراءة من الكفار -والتي هي نوعٌ من جهادهم- ليست منفصلة عن قواعد الشريعة التي يجب أن تراعى ويعمل بها، ومن هذه القواعد: النظرُ في حال المسلمين من جهة الاستضعاف أو التمكين، والنظر في حال العدو من جهة القوة والتسلط أو الضعف، فلا يشرع إعلان البراءة من الكفّار وإظهار عداوتهم وهم أقوياء متسلّطون على المسلمين، والمسلمون ضعفاء، لما سيترتب عليه من ضرر وأذىً لا يحتمل، ولن تتحقق به مصلحة انزجار الكافر، يدلّ لذلك هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته التي سار عليها في العهد المكي حيث كان المسلمون مستضعفين والكفار أقوياء، فكانت العلاقة بين الطرفين تتمحور حول أمرين اثنين: بيان الحق، والصبر على الأذى فيه.
وهذا بخلاف هديه وسيرته في العهد المدني، حيث أصبح المسلمون أقوياء، فاستعلنوا بالبراءة من المشركين وأظهروا لهم العداوة، وجاهدوهم بكل ما يستطيعون.
وعلى هذا: فإطلاق الغلاة القول بكفر كلّ من لم يظهر العداوة لكل أنواع الكفار غير صحيح، وقد وقعوا -بسبب ذلك- في تكفير عموم المسلمين! وهذا نابع من جهلهم بنصوص الولاء والبراء، وعدم تفريقهم بين مطلق الولاء والولاء المطلق، وبين وجود البراءة والعداوة في القلب وإظهارها، وبين حال قوة المسلمين وضعفهممن هؤلاء: صاحب كتاب: (ملّة إبراهيم)، حيث حشاه بالإطلاقات والعمومات، التي لا يلزم منها تكفير الحكومات فحسب، بل تكفير كل المسلمين..
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن بلد ماردين: هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبّه به أم لا؟
فأجاب: " الحمد لله، دماء المسلمين وأموالهم محرّمة حيث كانوا في "ماردين" أو غيرها، وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرّمة سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم، والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه، وإلا استحبت ولم تجب، ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرّمة عليهم ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم، من تغيّب أو تعريض أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت.
ولا يحل سبّهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السبّ والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم.
وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركّبة: فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"مجموع الفتاوى (28 / 239 - 240)..
إضافة تعليق جديد