سلسلة (تصحيح المنهج)
1. حقيقة المنهج وأصوله:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
1- كلمة المنهج لغة جاءت من مادة نهج ينهج نهجاً، وهو الطريق البيّن الواضح، ويطلق على الطريق المستقيم، والمنهجُ والنهجُ والمنهاجُ بمعنى واحد، وفي التنزيل قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة: 48]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "سبيلاً وسنة". وقال الحافظ في " الفتح " [1/48]: "والمنهاج: السبيل، أي الطريق الواضح".
2- وأما في الاصطلاح فالمنهج: هو السبيل الذي تسير عليه الطائفة المنصورة لتحقيق الغاية التي خُلِقَ من أجلها البشر.
وله إطلاقان: عام وخاص، فالعام هو الإسلام كله، وأما الخاص فيتعلق بالطريقة التي يسلكها المسلمون لإعادة حكم الله في الأرض.
3- والسير على المنهج الحق يثمر بإذن الله -عز وجل- التمكين والاستخلاف لهذه الأمة، فالسير على المنهج يعصم من الانحراف والضلال والهزائم المؤلمة ويثبت الحق في النفوس وفي الأرض حتى يأذن الله بالنصر والتمكين.
فالسير على المنهج هداية ورحمة وبشرى للسائرين في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة وبشرى للمسلمين}[النحل: 89]، وقال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدىً وبشرى للمسلمين}[النحل: 102].
4- ومن هنا يتبين لنا خطورة الانحراف عن المنهج، ويكفي في ذلك أنه عصيان لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وانحراف عن سبيل المؤمنين الأولين قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء: 115].
وتبدو الخطورة واضحة، في أفعال الخارجين عن المنهج، فالخوارج تقربوا إلى الله عز وجل بقتل أفضل البشر في عصره وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمعتزلة من الخلفاء والعلماء تقربوا إلى الله بقتل أحمد بن نصر المروزي، وتعذيب الإمام المبجل أحمد بن حنبل، والأمثلة كثيرة في القديم والحديث.
إن الخطأ في قضية منهجية، أعظم من الخطأ في مسألة فقهية فرعية، فقد يشذُّ العالم بفتوى وهو فيها مأجور لاجتهاد، ولكن لا يترتب على هذه المسألة فتنة أو فساد، ولكن لو أخطأ العالم في قضية منهجية فقد يترتب عليها مفاسد عظيمة من قتل وتشريد وانحسار في الدعوة، ومن هنا تجد هذه الآثار الخطيرة في العالم الإسلامي إنما هي من آثار فتوى في قضية منهجية ممن لم ترسخ قدمه في أرض العلم، وقلما تجد العلماء الراسخين يقعون في مثل هذا.
ولقد كان السلف يحذّرون من علم الكلام ويقولون: لأن يقال لك أخطأت، خير من أن يقال لك كفرت، ولأن يقال لك الآن أخطأت خيرٌ من أن يقال: ضللت، وسفكت دماء المسلمين. بل لأن يقال لك: مخذل مثبط مداهن، خير من أن تجعل دماء المسلمين في عنقك.
5- وأما مصادر المنهج فهي كتاب الله عز وجل، وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة ثم فهم سلف الأمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
والكتاب والسنة كافيان في كل صغيرة وكبيرة تهم هذه الأمة في مسيرة حياتها، وذلك لأن الله (قد بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأفضل المناهج والشرع).
ثم القواعد الجامعة التي سطرها السلف الصالح بسيرتهم القولية والفعلية.
والأدلة واضحة وبينة في كفاية منهج رب العالمين عن طرق ومناهج المُحْدَثين المنحرفين عن منهج رب العالمين، وطريقة السلف الأكرمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
6- والمنهج يقوم على أساسين عظيمين: الأول: العلم، والثاني: الاتباع وذلك لقول الله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[ يوسف: 108]، فكل السبل مسدودة إلا السبيل التي سلكها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من السلف الصالح، فهم يدعون إلى الله -عز وجل- لا يدعون إلى غيره من الشركاء إن كان صنمًا أو وثنًا أو رجلًا أو حزبًا أو جماعة، وهذه الدعوة على بصيرة، أي على علمٍ وثبات، فالعلم يعطيك سلامة الاعتقاد، والاتباع يعطيك السلامة في الطريق والمنهج.
فالاعتقاد هو الركيزة الأولى التي ينطلق منها المسلم إلى غايته المرجوة، ثم كان لا بد للسالك من طريق، فإن لم تكن سليمة فستؤدي به إلى الانحراف والضياع والضلال عن الهدف فلذلك قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}[هود: 112]، وقال أيضاً: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}[فصلت: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم).
فأيها المسلم: استقم كما أمرت، كما أمرك الله عز وجل، وأمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كما أمرك به عقلك أو فكرك أو وجدك أو ذوقك أو شيخك أو حزبك أو جماعتك.
7- وأما أسباب الخروج عن المنهج فهي كثيرة جداً، ولكنها ترجع إلى سببين رئيسين: الأول: سوء الفهم، الثاني: سوء القصد
فسوء الفهم هو الجهل الذي ينتج عنه التأويل والتحريف.
وسوء القصد: الذي ينتج عنه اتباع الهوى والعاطفة والمصالح غير المعتبرة.
2. ديننا دين اتباع لا ابتداع:
الاتباع: السير في طريق مسلوك.
والابتداع: إحداث طريق جديد لم يُسلك من قبل.
والاتباع الشرعي: هو السير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم ومن رضي الله عن منهجهم ألا وهم الصحابة، قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران: 31].
وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 153].
وقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 100].
وقال أيضا:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[لقمان: 15].
والاتباع لا يختص بأمر دون آخر، بل هو شاملٌ لأمور الدين كلها من عقيدة وشريعة ومنهج وسلوك، قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21].
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة لنا في كل شيء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق". أي كفيتم في العقائد والعبادات والسلوك، فلا يحل للمسلم أن يستدرك على الأمر الأول.
والابتداع ضد الاتباع تماماً، وهما لا يلتقيان أبداً لغة وشرعاً.
أما الابتداع في اللغة: قال في اللسان: بدع الشيء: أنشأه وبدأه.
والابتداع في الشرع: هو إحداث طريقة في الدين مخترعة من عبادة أو فكر أو سبيل، لم يُشرع في كتابٍ ولا سنة ولا فعله سلف هذه الأمة.
قال الشاطبي في الاعتصام (1/42): "البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية يُقصد بالسلوك عليها ما يُقصد بالطريقة الشرعية". انتهى.
ومجالات البدع كثيرة في العقيدة والسلوك والأحكام والمنهج، وكل هذا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ) البخاري ومسلم.
3. خطورة الابتداع:
الابتداع في الدين خطر عظيم، ومن هذا الخطر:
1- أن المبتدع يُنصبُ نفسه في منزلة المُشرِّع، ولا يشرِّع إلا الله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}[الشورى: 21].
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره: "أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من الضلالات والجهالة الباطلة".
2- أن الابتداع في الدين أخطر من ارتكاب الذنوب والمعاصي، قال شيخ الإسلام في "الفتاوى 28/470": "ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن البدع المغلظة شر من الذنوب".
3- أن صاحب البدعة لا يفكر بالتوبة، لأنه يظن أنها عبادة. ولهذا نُقل عن أئمة الإسلام كسفيان وغيره: "أن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية".
4- أن البدع أكثر إضلالاً للناس من المعاصي لأنهم يُقبلون إلى البدعة وينفرون من المعاصي.
5- أن أصل الشرك والضلال عن دين الله والكفر به، كان سببه الابتداع.
6- أن الابتداع معاندةٌ للشرع، وصدٌّ عن الاتباع، فمن كان مبتدعاً لا يكون متبعاً.
قال الشاطبي في "الاعتصام" (1/49): "إن المبتدع معاند للشرع ومشاق له".
7- أن لازم الابتداع أن دين الله ناقص، وأن الله عز وجل لم يكمل دينه، قال الشاطبي في "الاعتصام" (1/49): "فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم وإنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع".
8- الابتداع باب التغيير والتبديل والفوضى في دين الله، والقول على الله بغير علم.
9- الابتداع افتراء على الله، وذلك بنسبة الباطل إلى دين الله، إذ أن المبتدع ينسب بدعتَه إلى شريعةِ الله. قال الشاطبي في "الاعتصام" (1/52): "وهو -أي الابتداع- اتباع الهوى في التشريع، إذ حقيقته افتراء على الله".
10- ما يقع على المبتدع من اللعن والطرد، وردّ عمله، وإبطال أجره، والضلال في الدنيا، والعذاب في الآخرة، كما وردت به آثارٌ في السنة وعن سلف هذه الأمة.
11- أن الابتداع يستلزم القول بالتقصير في إبلاغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رسالة ربِّه.
12- أن الابتداع اتباع للمتشابه وإماتة للسنة، وإثارة للجدل والخصومة.
13- أن الابتداع اتباع للهوى، ومفارقة للجماعة واتباع سبيل المفسدين.
وغير ذلك من المفاسد العظيمة، والتي تجعل المسلم الصادق بعيدًا عن الابتداع سالكاً للاتباع.
4. التأصيل أولًا:
إن النهوض بالأمة من سباتها لتضمد جراحاتها لا يكون إلا بوجود ثلة من المؤصَّلين علمياً تكون الأساس الذي ينطلق منه المجتمع الإسلامي، وذلك لأن التمكين الذي حصل للمجتمع الإسلامي الأول إنما قام بجهود السابقين الأولين المؤصلين من المهاجرين والأنصار، الذين صبروا وجاهدوا، وأعزهم الله ونصرهم لأنهم نصروا دين الله عقيدة وعبادة وسلوكاً ومنهجاً، فجاء نصر الله جزاءً وفاقاً، بل عطاءً من ربك بغير حساب.
ونقصد بالتأصيل: أن يبني المسلم علمه وعمله على أصولٍ ثابتةٍ راسخةٍ مصدرها الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، مراعياً المقاصد الشرعية في تطبيقاته، مستنيراً بتأصيلات وتطبيقات الأئمة الأعلام من أئمة السلف الصالح في القديم والحديث.
والتأصيل الحق من أهم الواجبات بل أعظمها، ولا سيما في هذا الزمان الذي نطق فيه الرويبضة، قال ابن القيم رحمـه الله في "الفوائد" (ص275): "من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به، فإن البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه، فالأعمـال والدرجـات بنيان وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقاً حمل البنيان، واعتلى عليه، وإذا تهدَّمَ شيءٌ من البنيان سهلَ تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفـعْ البنيان ولم يثبت، وإذا تهدّمَ شيءٌ من الأساس سقطَ البنيانُ أو كاد.
فالعارف همته تصحيح الأسـاس وإحكامه، والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط.
قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}[التوبة: 109].
فاحمل بنيانك على قوة أساس الإيمان، فإذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه، كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس.
وهذا الأساس أمران:
الأول: صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته.
والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه.
فهذا أوثق أساس أسّسَ العبدُ عليه بنيانه، وبحسبه يَعتلي البناء ما شاء" انتهى.
فانظر -رحمني الله وإياك- ببصرك وبصيرتك إلى واقع المسلمين اليوم، تجد الانهيارات في العمل الإسلامي، عند ذلك تدرك حقيقةً مُرَّة ,وهي أن هذا العمل لم يؤسس على تقوى من الله ورضوان من نصوص الوحي وفقه أئمة القرون المفضلة في الدين.
والآية السابقة نزلت في حق مسجد الضـرار الذي بناه المنافقون كفراً وتفريقاً وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، فلما كانـت أسسه كذلك، كان مصيره الهدم والتحريق لينهار بمؤسسيه في نار جهنم وبئس المصير.
فلذلك دعا اللهُ رسولَه -صلى الله عليه- وسلم إلى الصلاة بالمسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم.
قـال تعـالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}[التوبة: 108] فنهاه عن القيام فيه مع أَنه مسجد، لأنّ الأعمال ليست بصورها وأشكالها وحسب، وإنما هي بحقائقها وأصولها.
فلذلك كانت الدعوة والجماعة الحق التي أسست على التقوى من أول يوم، وهي الأحق على المسلم أن ينضم إلى مسيرتها وركبها، هي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من السابقين الأولين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 100].
وهذه الدعوة والجماعة مستمرة برجالها إلى يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله) رواه مسلم.
ولقد ضرب الله مثلاً، لهذا التأصيل الحق في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم: 24 - 27].
فابتدأ الله -سبحانه وتعالى- بالتأصيل الحق وصفته، ثم بالتأصيل الباطل وصفته، ثم بثمرة كلا التأصيلين من الثبات وعدمه.
والكلمة الطيبة هي كلمة التوحيـد –لا إله إلا الله– وكلُّ دعوة لا تبنى على هذا الأصل العظيم فهي باطلة فاشلة، لأن التوحيد هو أول واجب وآخر واجب، فهو البداية والنهاية، لا ينفك عنه الداعي والمدعو.
وهذه الكلمة لها جذورها الثابتة في تربـة التقوى، فكان فرعها في السماء عالياً، لا يهتز للفتن، ولا تحركـه الأهـواء والمصالح، ولها ثمارها في كل حين، في الحرب والسلم، في مرحلة الضعف والقوة، وفي السجن والانطلاق.
فلا يعرف صاحبها اليأس والقنوط، في كل حين له عمل إما بقلبه أو بلسانه أوبجوارحه، بخلاف تلك الشجرة الخبيثة التي لا جذور لها ولا أصول, فما أن تأتي أول فتنة , وإذ بها تجتث من فوق الأرض، فلا تقوى على الثبات والصمود، وبهذا تعرف فائدة التأصيل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفلـه فسـد أعلاه) رواه أحمد (4/94)، وابن ماجه (4199)، وصححه الألباني في الصحيحة (1734).
ثمرات التأصيل الحق وفوائده:
1- الثبات في الحياة الدنيا على المنهج الحق وفي الآخرة على الصراط. قال الإمام مالك: "من أكثر الخصومات في الدين أكثر التنقل"، لأن الخصومات مبنية على أصول فاسدة أو فرعيات غير منضبطة بأصل صحيح، ومن هنا تجد طالب العلم غير المؤصل يكثر التنقل، من طائفة إلى طائفة، ومن بدعة إلى أخرى.
فلذلك تجد الذين يصمدون أمام الفتن هم الراسخون في العلم ومن اتبعهم من طلاب العلم المؤصلون على طريقة السلف الصالح.
2- الفـلاح والنجـاح في الحياة الدنيا والآخرة، لأن التأصيل هو إتيان للأمور من أبوابها، كما قال تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[البقرة: 189].
فإنَّ "كلَّ من سلك طريقاً وعمل عملاً وأتاه من أبوابه، وطرقه الموصلة إليه، فلا بد أن يفلح وينجح ويصل إلى غايته"، "ومن ضيَّع الأصول حُرم الوصول".
3- طيب الأعمال والأقوال، وإحياء الدعوة بالحركة النافعة فكما ان الجذور تمتص الماء وتعطي الساق والأوراق والثمار فكذلك التأصيل الحق هوالذي يمد المسلم بالحياة المثمرة.
4- التأصيل الحق اختصار للزمان والمكان، وتقطع فيه المراحل بسرعة وثبات.
قيل للحسن: سَبَقَنـا القوم على خيلٍ دُهم، ونحن على حُمُرٍ مُعْقرةٍ؟ فقال: "إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم".
5- العزة والرفعة في الدنيا والآخرة، لأن شجرة التأصيل قد شقت جذورها في أرض التوحيد وانطلقت بفرعها في السماء عالية عزيزة، كما قال تعالى:{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم: 25].
6- السلامة من الانحراف والضلال، لقد كان التأصيل الحق في الصحابة رضي الله عنهم، قد بلغ في قلوبهم وعقولهم القدح المعلّى، فلذلك لم يكن فيهم مبتدعٌ ولا صاحب هوى، وإنما حدثت الأهواء من غيرهم، ممن لم يؤصل تأصيلهم، قال شيخ الإسلام في "الجواب الباهر" (ص56-57): "إن الصحابة -رضوان الله عليهم- خير قرون هذه الأمة، التي هي خير أمّة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، ففهموا منه مقاصده صلى الله عليه وآله وسلم، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً، ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأموالهم وأنفسهم..
ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينالَ منهم من الإضلال والإغواء ممن بعدهم، ولم يكن منهم أحدٌ من أهل البدع المشهورة، كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم"
7- العلم والعدل في الأقوال والأعمال، وبذلك قامت السموات والأرض، قال شيخ الإسلام في "منهاج السنة النبوية" (5/ 83): "ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب لهم ولسائر الأمة فنقول لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم".
ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع.
5. التأصيل الفاسد وثمراته:
التأصيلُ الفاسدُ: هو المنهج المنحرف الذي سار عليه أهل الأهواء ممن خالف منهج أهل السنة والجماعة، حيث أصَّلوا أصولاً فاسدةً في العلم والعمل تخالف الكتاب والسنة، يسمونها عقليات وهي جهليات، ويسمونها سلوكاً وعبادات وهي بدعيات.
قال شيـخ الإسلام في"الفتاوى" (16/440): "وأما أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم فهم لم يثبتوا الحق، بل أصلوا أصولاً تناقض الحق فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا ولم يدلُّوا على الحق حتى أصلوا أصولا تناقض الحق ورأوا أنها تناقض ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقدموها على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم".
وسبب ذلك تقديم العقل والوجد والذوق والكشف والمصلحة المدعاة على النقل، فأثمرت لهم هذه الأصول ثماراً خبيثة.
وقال أيضا في "الفتاوى" (13/157): "وإنما أوقع هذه الطوائف فى هذه الأقوال ذلك الأصل الذى تلقوه عن الجهمية، وهو أنَّ ما لم يخل من الحوادث فهو حادث وهو باطل عقلًا وشرعًا، وهذا الأصل فاسد مخالف للعقل والشرع وبه استطالت عليهم الفلاسفة الدهرية فلا للإسلام نصروا ولا لعدوه كسروا، بل قد خالفوا السلف والأئمة وخالفوا العقل والشرع وسلطوا عليهم وعلى المسلمين عدوهم من الفلاسفة والدهرية والملاحدة بسبب غلطهم فى هذا الأصل الذى جعلوه أصل دينهم، ولو اعتصموا بما جاء به الرسول لوافقوا المنقول والمعقول وثبت لهم الأصل ولكن ضيَّعوا الأصول فحُرِموا الوصول والأصول اتباع ما جاء به الرسول، وأحدثوا أصولا ظنوا أنها أصول ثابتة..
فالأصول الثابتة هى أصول الأنبياء، كما قيل:
أَيُّهَا الْمُغْتَدِي لِتَطْلُبَ عِلْمًا... كُلُّ عِلْمِ عَبْدٍ لِعِلْمِ الرَّسُولِ
تَطْلُبُ الْفَرْعَ كَيْ تُصَحِّحَ حُكْمًا... ثُمَّ أَغْفَلْت أَصْلَ أَصْلِ الْأُصُولِ".
وقال ابن القيم في "الصواعق المرسلة" (1/341): "فهذه القواعد الفاسدة هي التي حملتهم على تلك التأويلات الباطلة، لأنهم رأوها لا تلائم نصوص الوحي".
وقال أيضا في "الصواعق المرسلة" (4/ 1423): "إنَّ هؤلاء أصَّلوا أصولاً جعلوها أساسا لبنائهم وسموها قواطع عقلية وسمّوا أدلتها براهين يقينية، فجاءت فروع تلك الأصول ولوازمها والبناء الذي ارتفع عليها من أبطل الفروع وأفسد اللوازم وأضعف البناء وأوهاه، وذلك بيّنٌ لكلِّ ذي عقل سليم وفطرة صحيحة لم تفسد بالتقليد ولم تعم بالهوى والتعصب عن فساد تلك الأصول ومناقضتها للمعقول والمنقول وهذا موضع يستدعي عدة أسفار".
6. معالم في أصول الدعوة إلى الله:
الدعوةُ إلى الله هي وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة، وفيها الأجر العظيم والدائم، وهي أحسن القول إذا اقترنت مع العمل الصالح، والدعوة إلى الله من أسباب حصول الخيرية لهذه الأمة، وهي من أعظم الجهاد في سبيل الله.
قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة"(1 /70): "فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهادٌ باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير، والثاني: الجهادُ بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه".
والدعوة إلى الله لها معالمها وأصولها التي بيَّنها الله عزَّ وجلَّ في كتابه،والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته وسيرته، وبالتالي ليست خاضعة لأذواق الناس وأهوائهم وتجاربهم ومصالحهم غير المعتبرة.
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف: 108].
فإليك بعض المعالم أيها الداعي إلى الله والتي ينبغي الوقوف عندما تأملاً وتفهماً وتطبيقاً حتى تؤتي الدعوة ثمارها المرجوة منها:
1- كلُّ دعوة سواء قام بها الفرد أو الجماعة، لا تقوم على أصل الأصول، والكلمة الطيبة، كلمة لا إله إلا الله، هي دعوة باطلةٌ فاشلةٌ، لأنَّ التوحيد هو أول واجب وآخر واجب، ولا ينفك المسلم في لحظة من حياته عن التوحيد، والتوحيد هو أساس دعوة الأنبياء كلهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36].
قال ابن القيم في "الصواعق المرسلة" (1/151- 152): "فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان:
أحدهما: تعريف الطريق الموصلة إليه وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم الذي لا ينفد،وقرة العين التي لا تنقطع.
وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول ومبنيان عليه، فأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه".
ولما كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم مرتكزة على هذا الأصل العظيم أثمرت، وما زالت تُثمر على أيدي أتباعهم من الطائفة المنصورة، بخلاف الدعوات التي لم تقم على هذا الأصل قديما وحديثا فإنها عقيمة، وإن أثمرت لا تُثمر إلا الضلال والانحراف والشقاق والنفاق، ثم الانتكاسات.
2- وينبني على ذلك أن كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، لأنَّ توحيد الكلمة هو ثمرة لكلمة التوحيد، وليس المراد هو تجميع الناس وحسب، فقد ذمَّ الله اليهود المجتمعين بأجسادهم المتفرقين بقلوبهم، كما في قوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}[الحشر: 14].
وإنما أمر الله بالتجمع على التوحيد كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103].
3- أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله، لأنَّ بعض الداعين قد يدعو لنفسه أو حزبه أو فصيله أوبلده. ولأهمية الإخلاص ذكره الله في مقام الدعوة إليه، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف: 108] , وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت: 33].
4- أهمية البصيرة في الدعوة إلى الله، والبصيرة هي الحجة الواضحة والبرهان المتيقن، بالأدلة والبراهين الساطعة، قال ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين"(2/482): "والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعلى درجات العلماء".
وقد اشتكى الألوسي في زمانه الدعاة على غير بصيرة، فقال في تفسيره "روح المعاني" عند قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}[يوسف: 108]، قال: "وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عارفا بطريق الإيصال إليه سبحانه عالما بما يجب له تعالى وما يجوز وما يمتنع عليه جل شأنه، والدعاة إلى الله تعالى اليوم من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم إلى الإرشاد بزعمهم أجهل من حمار الحكيم توما، وهم لعمري في ضلالة مدلهمة ومهامه (مفازة) يحار فيها الخريت وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ولبئس ما كانوا يصنعون".
والحكيم توما يضربون به المثل بالجهل المركب، قال الألوسي في "روح المعاني" (11/ 61): "فإنَّ الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق، ومن هنا قالوا: هو شر من الجهل البسيط، وما ألطف ما قيل
قال حمار الحكيم توما... لو أنصفوني لكنت أركب.
لأنني جاهل بسيط... وصاحبي جاهلٌ مركب".
5- أهمية العمل الصالح للداعي إلى الله، فإنَّ العمل الصالح سببٌ للتوفيق والتثبيت، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 66 - 68].
ولأهمية العمل الصالح فقد قرنه الله في مقام مدح الدعوة إلى الله وذلك عندما قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت: 33].
قال قتادة: "هذا عبد صدّق قولَه عملُه، ومولَجه مخرجُه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه، وإن المنافق عبد خالف قوله عمله، ومولجه مخرجه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه".
وترك العمل الصالح يؤدي إلى العداوة والبغضاء، قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 1/14-15: "فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما أمر به باطناً وظاهراً، وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به، والبغي بينهم".
6- أهمية معرفة مراتب الناس في قبولهم للدعوة، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل: 125].
والحكمة هي العلم بالحق والعمل به، قال شيخ الإسلام في "الرد على المنطقيين" (ص468): "فإنَّ الحكمة هي العلم بالحق والعمل به، فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به، فيدعون بالحكمة، والثاني من يعرف الحق، لكن تخالفه نفسه، فهذا يوعظ بالموعظة الحسنة،...فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن".
ومن الدعوة بالحكمة صرف الناس إلى ما ينفعهم، وذلك باتباع سيرة وطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم -رحمه الله- كلمة ذهبية في "فوائد الفوائد" (ص64): "فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه، لصلح العالم لا فساد معه".
7- أهمية الصبر مع المراجعة، فالدعوة لا بدَّ لها من الصبر على الأذى وطول الطريق، {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: 17]، وإذا أُصيب المسلم في طريقه، لا بدّ أن يصبرَ ثم يراجع نفسه، كي يعرف سبب البلاء، لأن المسلم ما يصيبه من مصيبة إلا من خلال تقصيره، فالواجبُ الصبر والسيرُ في الطريق دون يأس ولا قنوطٍ.
8- المسلمُ الحقُّ هو الذي يبينُ الحقَّ ويرحمُ الخلقَ، فبعض الداعين يبينون الحق ولكن بطريقة فظة غليظة مما يؤدي إلى نفور الناس منه كما قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159]، وبعض الداعين يسلكون سبيل الرحمة من غير بيان للحق بل يدعون إلى الباطل، وهذا فيه ضياع لحق الشريعة كما أن الأول قد ضيع حق الناس.
7. كشف الغمة باتباع علماء الأمة:
إنَّ الناظر في أحوال المسلمين -وفي ضَوء السنن الشرعيَّة والكونيَّة- يجزم بأنَّ الغُمَّة لا يُمكن أن تنكشفَ عن هذه الأُمَّة، إلاَّ بالعودة إلى الكتاب والسُّنة على فهم سلف الأمة.
ولا يكون ذلك إلاَّ بالارتباط بالعُلماء الرَّاسخين، الذي هو ارتباط بالسلسلة الذهبية المتصلة، التي أخذها العدل عن مثله إلى منتهاها، من غير شذوذ في منهج، أو علة في تأصيل.
فالعالم ينقل عن مثله، عن التَّابعين بإحسان، عن صحابة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن ربِّ العالمين أحكم الحاكمين.
ولقد عبَّرَ -عن هذه السلسلة الذهبية- الإمامُ الأوزاعي -رحمه الله- عندما قال: "كُنَّا والتَّابعون مُتوافرون، نقول: إنَّ الله فوق عرشه، ونُؤمن بما وردت به السُّنة من صفاته". أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (2/304).
فالأوزاعيُّ أخذ من التَّابعين، وهؤلاء أخذوا من الصحابة -رضي الله عنهم- وهؤلاء عن الذي لا ينطق عن الهوى صلَّى الله عليه وسلَّم.
وعندما نقول: إنَّه لا بُدَّ من الارتباطِ بالعُلماء، لا نعني بذلك التعصُّب لهم، وإنَّما نعني بهذا الارتباط: الاقتداء بهم اقتداء البصير الناقد، لا اقتداء المجادل المعاند، واتِّباع أقوالهم التي أخذوها من الكتاب والسنة، وعدم تجاوزها إلاَّ بدليلٍ يترجح عند طالب العلم، وإذا بان الخطأ منهم، فإننا نردُّه مع احترامهم وإجلالهم والدُّعاء لهم بالمغفرة.
وذلك لأن الله قد جعل العلماء أدلاءَ على الحقِّ، وسطاء إليه، ولكنَّ الضَّلالَ الوقوفُ عندهم من غير دليل واعتبار ذلك هو الشرع.
قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/872): "إن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال".
كذلك تجاوزهم وعدم اعتبارهم وسائط إلى الحق ضلال، فضلا أن يطعن فيهم فهم مفاتيح الخير الباقي في الكتاب والسنة.
قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/880): "إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضـاً لا يعـرف دون وسائطهم بل بهم يتوصـل إليه، وهم الأدلّاء على طريقه".
فالناس مع العلماء طرفان ووسط، طـرفٌ فيـه إفراطٌ وغلوٌ وهم المقلدون المتعصبون، وطرفٌ فيه تفريـطٌ وجفـاءٌ كأصحاب الغلو، وهم الأدعياءُ الأصاغر الذين لا يلتفتون إلى أقوال العلماء، ولا يرفعـون لها رأساً ويقولون هم رجال ونحن رجال، والوسط هو العدل وهو منهج الاتباع لمنهجهم العام مع الاعتبار لأقوالهم التفصيلية بأدلتها من الكتاب والسنة من غير تعصبٍ لها إذا خالفت الكتاب والسنة، وفي هذا حفظٌ لحق الشريعة وحق العلماء.
قال شيخُ الإسلام في "الفتاوى الكبرى" (3/ 177- 178) مؤصلاً لهذا المعنى: "نعوذ بالله -سبحانه- مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لكن دين الإسلام إنما يتم بأمرين:
أحدهما: معرفة فضل الأئمة وحقوقهم ومقاديرهم، وترك كل ما يجر إلى ثلمهم.
والثاني: النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم , وإبانة ما أنزل الله –سبحانه- من البينات والهدى.
ولا منافاة أن الله -سبحانه- بين القسمين لمن شرح الله صدره، وإنما يضيق عن ذلك أحد رجلين: رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم، أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام".
العلماء هم النجوم وهم أولو الأمر:
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2/14): "فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعُنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59].
قال عبدالله بن عباس في إحدى الروايتين عنه، وجابر بن عبد الله، والحسن البصري، وأبو العالية، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، ومجاهد، في إحدى الروايتين عنه, أولوا الأمر: هم العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال أبو هريرة، وابن عباس في الرواية الأخرى، وزيد بن أسلم، والسدي ومقاتل: هم الأمراء، وهو الرواية الثانية عن أحمد.
والتحقيق أن الأمراء، إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء".
وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" (11/551): "وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين، وهؤلاء أولوا أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله".
وللأسف الآن أصبح كثيرٌ من أمراء الحرب لا يصدرون عن كلام العلماء الراسخين بل يتبعون من لا علم عنده، وإذا نصحهم العلماء جابهوهم بالقاعدة الفاسدة الباطلة: "لا يفتي قاعدٌ لمجاهدٍ".
من هم العلماء؟
العلماء الربانيون الملتزمون بنصوص الكتاب والسنة على فقه سلف الأمة هم ورثة الأنبياء، وهم الطائفة المنصورة الظاهرة على الحق، وهم أهل الحديث والأثر، ومن سار على طريقهم.
قال الإمام أحمد في حديث الطائفة المنصورة: "إن لم يكونوا أصحاب الحديـث فلا أدري من هم"، وقال أحمد بن سنان: "هم أهل العلم وأصحاب الآثار"، وقال علي بن المديني: "هم أصحاب الحديث"، وقال البخاري: "يعني أصحاب الحديث"، وقـال يزيـد بن هارون: "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم".
وهذه الآثار أخرجها كلها بسنده الخطيب البغدادي في كتابه "شرف أصحاب الحديث".
قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" (4/8) في شأن أهل الحديث: "فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدُّهم كلاماً، وأَصحُّهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسـة، وأصدقهم إلهاماً، وما نَبُل الإمام أحمد والشافعي وغيرهما عند الأمة إلا باتباع الحديث والسنة".
فلذلك كان العلماء من أهل الحديث والأثر هم الناطقون بالحكمة، قال أبو عثمان الجبري: "من أَمّرَ السنة على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالحكمة ومن أَمّرَ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالبدعة، قال الله تعالى {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}[النور: 54]".
ومن هنا لو كان هناك عالم واحد من أهل الحديث والأثر على وجه الأرض، لكان الواجب على أهل الأرض أن يتبعوه، لأنه هو الجماعة الحق التي أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتزامها.
قال إسحاق بن راهويه: "إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم، فقال رجل: يا أبا يعقوب من السواد الأعظم؟ فقال: محمدُ بن أَسلم وأصحابه ومن تبعه، ثم قال: سأل رجلٌ ابنَ المبارك فقال: يا أبا عبدالرحمن من السواد الأعظم؟ قال: أبو حمزة السكري، ثم قال إسحاق: في ذلك الزمان -يعني أبا حمزة- وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه، ثم قال إسحاق: لو سألت الجهال من السواد الأعظم؟ قالوا: جماعة الناس، ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقه، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة، ومن خالفه فيه ترك الجماعة، ثم قال إسحاق: لم أسمع عالما منذ خمسين سنة أعلم من محمد بن أسلم".
قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/778) معلقًا: "فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم، وهو وهم العوام لا فهم العلماء فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ولا توفيق إلا بالله".
وعلَّق ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/70) على كلام اسحاق بن راهويه قائلاً: "وصدق والله، فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها، فهو الحجة وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها، ولاّه الله ما تولّى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".
وقال في موضعٍ آخر: "إن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كـان وحـده، وإن خالفـه أهل الأرض... وقد شذَّ الناس كلُّهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً، فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة". "إعلام الموقعين" (3/397).
وهذا الكلام يصدقه أثر ابن مسعود رضي الله عنه إذ يقول: "الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك". "تهذيب الكمال" للمزي (22/264 - 265)
متى يكون العالم عالماً؟:
العلم ليس بالادّعاء، وإنما هو شهادة من أهل الاختصاص، فكما أن الطبيب لا يكون طبيباً إلا إذا شهد له الأطباء بذلك، كذلك العالم لا يكون عالماً إلا إذا شهد له أهل الشأن بذلك.
قال الشاطبـي في"الاعتصام" (2/778): "والعالم إذا لم يشهد له العلماء، فهو في الحكـم باقٍ على الأصل من عدم العلم، حتى يشهد فيه غيره، ويعلم هو من نفسه ما شهد له به، وإلا فهو على يقين من عدم العلم".
قال مالك رحمه الله: "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك".
رواه أبو نعيم في "الحلية" (6/316)، والخطيب في "الفقية والمتفقه" (رقم 1037) وهو صحيح.
فانظر – رحمك الله – إلى كلام الإمام مالك، ثم انظر إلى الذين تجرؤوا على الفتوى، من غير أن يشهد لهم أحد من أهل العلم بذلك، ثم هو يخوض في النوازل التي لا يقدر على الكلام فيها إلا خواص أهل العلم، فإذا وقعت الواقعة تراجع ونكص على عقبيه تائبًا !!! بعد أن أغرق الأمة بالدماء، وقد كان في سعة من هذا الأمر.
8. الطعن في العلماء:
إنَّ القدحَ في العلماء هو سبيلٌ من سبل أهل الزيغ والضلال, والطعنُ فيهم ليس طعناً في ذواتهم، وإنما هو طعن في الدين والدعوة التي يحملونها، والملة التي ينتسبون إليها.
"ولعظم الجناية على العلماء صار من المعقود في أصول الإعتقاد، ومن ذكرهم بسوء فهو على غيرسبيل".
قال الطحاوي الحنفي في عقيدته: "وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل".
وقال الحافظ ابن عساكر الدمشقي في "تبيين كذب المفتري" (ص28): "واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته: أن لحوم العلماء - رحمة الله عليهم- مسمومة، وعادة الله في هتك أستـار منتقصهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه بـراء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتعٌ وخيمٌ، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنشر العلم خلقٌ ذميمٌ".
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: "حقٌّ على العاقل أن لا يستخفَّ بثلاثة: العلماء، والسلاطين، والإخوان، فإنه من استخفَّ بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخفَّ بالسلطان ذهبت دنياه، ومن استخفَّ بالإخوان ذهبت مروءته".
ولقد انتشر- للأسف- الطعن في العلماء المتقدمين منهم والمعاصرين، في أوساط كثير من الشباب الثائر المتحمس، وذلك باتهامهم بالجهالة في فقه الواقع أحيانا، والعمالة والمداهنة لأعداء الدين أحياناً أخرى، وبإخراجهم من دائرة السنة والجماعة باسم الجرح والتعديل !! بل وصل ببعض الهالكين إلى رميهم بالكفر والزندقة والعياذ بالله، ولم يعلم هؤلاء أن الكلام فيهم والتفكه بأعراضهم داء دفين، وإثم واضح مبين.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[الأحزاب: 58].
ومراد هؤلاء بهذا الطعن إسقاط العلمـاء، كي لا يُلـزموا أنفسهم باتباع فتاويهم في القضايا الخطيرة التي تتعلق بالأمة.
قال البقاعي -رحمه الله- في "مصاعد النظر" (1/108): "إن ردَّ علم العلماء وعدم الاقتداء بهم هو تبديل لنعمة الله عز وجل".
وإذا كانت موالاة المؤمنين من أوثق عرى الإيمان، فإن أحق الناس بهذا هم العلماء. قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (20/232): "فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله، موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدي بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد فعلماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا".
لقد كان علماءُ السنة محنةً وفرقاناً بين أهل السنة وأهل البدعة، أخرج اللالكائي عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "إذا رأيت بصرياً يحب حماد بن زيد فهو صاحب سنة".
وأخرج أيضًا عن قتيبة بن سعيد قال: "إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن محمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وذكر قوما آخرين، فإنه على السنة، ومن خالف هؤلاء فاعلم إنه مبتدع".
ولا شك أن الطاعن في علمائنا ومن سار على طريقتهم من طلبة العلم والمشايخ والدعاة هو على سبيل ضلالة وابتداع، وليس على سبيل السنة والاتباع.
والله أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع هيئة الشام الإسلامية
إضافة تعليق جديد