أهل السنّة والجماعة
لتحميل البحث بصيغة PDF اضغط هنا
بدأت الفتن تفتّ في عضد الدولة الإسلامية عندما ثار الغوغاء على عثمان رضي الله عنه وحاصروه وقتلوه، ثم ما لبثوا أن أصبحوا جماعةً تعرف بالخوارج بعد حادثة التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وأصبحت لهم عقيدتهم المتمثلة في الخروج على الأمة ومفارقة عامتها، والتكفير واستباحة الدماء، والغلو، في جملة من العقائد الفاسدة، قادهم إليها الجهلُ، واتباعُ ظاهر القرآن من غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده، والطيشُ، والتكبّرُ على الحق.
وفي المقابل ظهر الشيعة وهم الذين زعموا نصرة علي رضي الله عنه، ثم غلوا فيه وفي آل البيت، وفضّلوه على الشيخين أبي بكر وعمر، ليتطوّر بهم الأمر إلى حدّ سبّهما، وتكفيرهما مع سائر الصحابة. وكان الذي ابتدع بدعة الغلو في علي رضي الله عنه: عبدالله بن سبأ اليهودي، وأتباعه يعرفون بالسبئية، وفيهم من ادعى الألوهية في علي رضي الله عنه.
ثم ظهرت بدع أهل الكلام، وهم الذين حكّموا العقل في النصوص الشرعية، واعتمدوا في إثبات العقيدة على قواعد جدلية مستقاة من علم الفلسفة والمنطق، وقد قادهم هذا إلى ردّ كثير من الأحاديث، أو تأويلها لصرفها عن ظاهرها وحقيقتها إلى ما يوافق رأيهم.
وهذا أَحوجَ الناس إلى أن يبينوا المنهج الصحيح الذي ينبغي اتباعه، فظهر مصطلح أهل السنة والجماعة، وفي هذا البحث سنبيّن المراد بأهل السنّة والجماعة، ونذكر الأحاديث الواردة فيهم، ونوضّح من يدخل ضمنهم ومن لا يدخل.
- أولًا: تعريف أهل السنة والجماعة:
تعريف مفردات المصطلح:
1. السنّة:
في اللغة: تطلق السنّة ويراد بها: السيرة والطريقة والنهج: قال ابن الأثير: "قد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها، والأصل فيها الطريقة والسيرة"النهاية في غريب الحديث ص (449)..
وأصل اشتقاق الكلمة من سَنَّ، قال ابن فارس: "السين والنون أصل واحد مطّرد، وهو جريان الشيء واضطراده في سهولة، ... ومما اشتق منه: السنة وهي السيرة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيرته، ... وإنما سميت بذلك لأنها تجري جرياً"مقاييس اللغة، (3/60)..
وفي الاصطلاح: للسنة عند العلماء تعريفات متغايرة، بحسب الفن الذي تستخدم فيه.
فهي عند علماء العقيدة: ما وافق الكتاب والحديث وإجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات.
قال الشاطبي: "يُقال فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل صلى الله عليه وسلم، ويقال فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك"الموافقات (4/290)..
وعند علماء الحديث: ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، أو صفةينظر: علوم الحديث لابن الصلاح، ص (45)، ومجموع الفتاوى (18/6)..
وعند علماء الفقه: الطريقة المتبعة في الدين من غير افتراض ولا وجوبينظر: التعريفات للجرجاني، ص (122)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/95)، والموسوعة الكويتية (25/ 264-265)..
وعند علماء أصول الفقه: ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يكون دليلاً لحكم شرعيالمراجع السابقة..
2. الجماعة:
في اللغة: مشتقة من الجَمْع، وهو الضمّ، وهو ضدّ التفرّق.
قال ابن منظور: "جَمَعَ الشيءَ عن تفرِقة ... والجَمْع: اسْمٌ لِجَمَاعَةِ النَّاسِ ... والجَماعةُ والجَمِيع والمَجْمع والمَجْمَعةُ: كالجَمْع، وَقَدِ اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّاسِ حَتَّى قَالُوا جَماعة الشَّجَرِ وَجَمَاعَةُ النَّبَاتِ"لسان العرب (8/45)..
وفي الاصطلاح: "اجتماع القلوب، أو القلوب والأبدان على شيء يعتقد أصحابُه أنه حَقٌّ، فإن كان موافقاً لأمر الشارع فهي الجماعة عند الإطلاق الشرعي"محمد الجريتلي، من هم أهل السنة والجماعة؟ شبكة الألوكة..
تعريف أهل السنة والجماعة باعتباره علماً مركّباً:
أهل السنّة والجماعة هم: الذين يسيرون على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته رضي الله عنهم، المجتمعون على الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنّة.
- ثانيًا: الأحاديث الواردة في أهل السنة والجماعة:
جاءت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإخبار عن افتراق المسلمين كما افترق الذين من قبلهم من الأمم، وأن الحق يجانب هذه الفرق عدا واحدة منها، وهي (أهل السنة والجماعة).
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (تَفَرَّقَتِ اليَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)رواه الترمذي (2640)، وأحمد (8377)، والحاكم في المستدرك (441)..
وفي رواية عن معاوية رضي الله عنه: (ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ)رواه أبو داوود (4597)، والحاكم في المستدرك (443)، ورواه ابن ماجه (3992) من حديث عوف بن مالك، ومن حديث أنس بن مالك برقم (3993)..
وفي رواية: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَهَلَكَتْ سَبْعُونَ فِرْقَةً، وَخَلَصَتْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، تَهْلِكُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، وَتَخْلُصُ فِرْقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ الْجَمَاعَةُ)رواه أحمد (12479)..
وفي رواية: (كُلُّهَا فِي الْهَاوِيَةِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ النَّاجِيَةُ)رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (249)، والمروزي في السنة (61)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (274) عن علي موقوفًا عليه.. اختلف العلماء في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار) و(كلها في الهاوية) و(تهلك إحدى وسبعون)، فقال بعض أهل العلم إن المراد: الخلود في النار، وقال آخرون: إن المراد: الوعيد بالنار، وأنهم لا يكفرون، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعلهم من أمته. قال البيهقي في الاعتقاد (1/235): "وأما تخليد من عداهم من أهل البدع في النار فهو مبني على تكفيرهم، فمن لم يكفرهم أجراهم بالخروج من النار بأصل الإيمان مجرى الفساق من المسلمين، وحمل الخبر على تعذيبهم بالنار مدة من الزمان دون الأبد، واحتج في ترك القول بتكفيرهم بقوله صلى الله عليه وسلم (تفترق أمتي), فجعل الجميع مع افتراقهم من أمته والله أعلم". وقال بعض أهل العلم بالتفصيل: فما كان من الفرق خارجاً عن الإسلام كفرق الباطنية: كالإسماعيلية والنصيرية والدروز، فهؤلاء كفار بإجماع المسلمين وإن انتسبوا إلى الإسلام، فيكون قوله (في النار) بمعنى الخلود فيها، وأما من كانت مفارقتهم لمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بغير الكفر فهؤلاء أهل بدعة أو معصية، وحكمهم حكم أصحاب الكبائر، يشملهم الوعيد بالنار بنص الحديث، لكنهم تحت مشيئة الله، إن شاء الله عفا عنهم وإن شاء عذّبهم..
الحكم على هذه الأحاديث:
حديث أبي هريرة صححه جمع من أهل العلم، قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وله شواهد، ووافقه الذهبي سنن الترمذي (4/322)، والمستدرك (1/217)..
أما الروايات الأخرى التي فيها الوعيد لمن لم يكن من أهل السنّة فقد أعلّها بعض أهل العلم وضعّفها، لكنّ عددًا من أهل العلم صحّحوا هذه الروايات باجتماع طرقها وشواهدها، قال الحاكم: "هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث" ووافقه الذهبيالمستدرك (1/218).، وقال ابن تيمية: "الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند، كسنن أبي داود والترمذي والنسائي"مجموع الفتاوى (3/345).، وصححها كذلك الألبانيحيث قال عن حديث أنس "حديث صحيح ... والحديث صحيح قطعًا، له ستة طرق أخرى عن أنس، وشواهد عن جمع من الصحابة" ينظر: (حاشية السنة لابن أبي عاصم ح رقم 64)، وينظر كذلك السلسلة الصحيحة (1/403) وما بعدها.وشعيب الأرناؤوطحيث قال عند حديث (الجماعة الجماعة) الذي رواه أحمد: "صحيح بشواهده، وهذا إسناد ضعيف" المسند (19/462).وغيرهم، رحمهم الله.
- ثالثاً: سبب التسمية:
سمّوا أهل السنة: لتمسكهم واتباعهم لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنّة أصحابه من بعده ولاسيما الخلفاء الراشدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)رواه أبو داود (3991)، والترمذي (2600) وقال هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه (42) و (43)، وأحمد (17112) و (17114) و(17115)، والدارمي (95).. قال ابن علان: "فعليكم بسنتي أي: الزموا حينئذ التمسك بسنتي أي: طريقتي وسيرتي القويمة التي أنا عليها مما فصّلته لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية الواجبة والمندوبة وغيرها"دليل الفالحين (1/308).، وقال الصنعاني: "ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته -صلى الله عليه وسلم- من جهاد الأعداء وتقوية شعار الدين ونحوها"سبل السلام (2/27-28)..
وجاء في وصف الفرقة الناجية: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)رواه الترمذي (2641) وقال: هذا حديث مفسّر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (250)، والآجري في الشريعة (111)، والطبراني (62) وغيرهم، وحسّنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (6/141)..
وسمّوا الجماعة: لأنهم جماعة الإسلام أو (السواد الأعظم) كما ورد في الحديثينظر: مصنف ابن أبي شيبة (37892)، والسنة لابن أبي عاصم (69)، والسنة للمروزي (56)، ومسند أبي يعلى الموصلي (3938) والشريعة للآجري (27) و(111)، والطبراني في الأوسط (7202) وفي الكبير (8054) والإبانة الكبرى لابن بطة (271)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (152)، والسنن الكبرى للبيهقي (16783).، ولأنهم يجتمعون على الحق ويجتنبون التفرّق والاختلاف فيما لا يسوغ فيه الاختلاف، وقد جاء في الحديث تسميتهم بالجماعة كما تقدم.
المراد بالجماعة:
تأتي كلمة الجماعة على معان متعددة، ذكرها الشاطبي رحمه الله،ينظر: الموافقات (3/209-217).وهي:
1. السواد الأعظم من أهل الإسلام، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية، سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم، فهو مخالف للحق. ويدخل فيهم مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم، بخلاف أهل البدع فلا يدخلون، لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة فلم يدخلوا في سوادهم بحال.
وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري وابن مسعود رضي الله عنهما
2. جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فهم حجة الله على العالمين، وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة)، أي لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة، وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها تفزع من النوازل، وهي تبع لها. وعلى هذا القول: لا يدخل في الجماعة من ليس بعالم مجتهد.
وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين.
3. الجماعة هي الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً، ولأنهم المتلقون لكلام النبوة، المهتدون بالشريعة، الذين فهموا مراد الله بالتلقي من نبيه مشافهة، على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال، بخلاف غيرهم. وعلى هذا القول: لا يدخل أهل البدع في الجماعة قطعاً.
وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
4. الجماعة هي جماعة أهل الإسلام، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة.
وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضاً ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر.
"وهذا القول مشكل جداً لأن أهل الإسلام أنفسهم ينقسمون إلى فرق، والمقصود تحديد الفرقة الناجية، ولذلك لم يذكره ابن حجر عن الطبري، وذكر الأقوال الأربعة الأخرى، فإسقاط هذا القول أولى، لاسيما وأن الشاطبي لم يذكر قائله"موقع الإسلام ويب، فتوى رقم (12682)..
5. الجماعة هي جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على الإمام الموافق للكتاب والسنّة.
وممن اختار هذا القول: الإمام الطبري رحمه الله.
بداية ظهور مصطلح أهل السنة والجماعة:
ذُكر هذا المصطلح في النصوص الشرعية التي تبيّن حقيقته، كما تقدّم في الأحاديث السابقة، ثم استخدمه الصحابة والتابعون، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}[آل عمران: 106] قال: "فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولو العلم, وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (74).،
وعن سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طه: 82] قال: "ثم اهتدى، أي استقام على السنّة والجماعة"تفسير ابن كثير (5/271)..
- رابعًا: من يدخل تحت مسمى أهل السنة والجماعة:
كل من حقق ما جاء في الأحاديث من اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بسنّته، والسير على طريقة أصحابه في فهم الدين والعمل به، وترك الابتداع في الدين، والاجتماع على الحق وترك التفرق فهو من أهل السنّة والجماعة، قال القاري: "بهذا الحديث يندفع زعم كلّ فريق أنه على الصراط المستقيم"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/254)..
فيدخل في أهل السنّة دخولاً أوليًا: جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم خير القرون، وأبرّ الأمة قلوباً، وأعمقها علماً وفهمًا لكتاب الله وسنّة رسوله، فقد شهدوا التنزيل، وعرفوا خاصّه وعامّه، وصحبوا الرسول واطلعوا على أحواله، وعنه نقلوا هديه وطريقته في الدين. ومنهم الخلفاء الراشدون المهديون المتّبعون.
ثم التابعون، فهم على هدي الصحابة سائرون، وعلى نهجهم ماضون، وقد مدحهم الله تعالى في القرآن بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر: 10].
وأئمة الهدى المتبعون، كالأئمة الأربعة وغيرهم.
وكل المتمسكين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، المستقيمين على الاتباع، والمجانبين للابتداع، في أي مكان وزمان.
أما الفرق الإسلامية:
فما كان منها منتسبًا إلى الإسلام بالاسم فقط، لكن عقائدها تخالفه، كفرق الباطنية، مثل الدروز والإسماعيلية، والنصيرية والقاديانية وغيرها، فهذه فرقُ كفرٍ أجمع العلماء على كفرها، فلا تدخل تحت مسمّى أهل السنّة والجماعة.
والرافضة كذلك لا يدخلون تحت هذا الاسم مطلقًا، فهم على النقيض من أهل السنة.
وكذلك الفرق التي عظمت بدعتها كالجهمية والمعتزلة ، فلا تعدّ من أهل السنّة.
أما سائر الفرق التي خاضت في علم الكلام، فهم وإن اتفقوا مع أهل السنّة في كثير من المسائل، إلا أنهم فارقوهم في كثير من مسائل العقيدة التي انتهجوا فيها منهجًا مخالفاً لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهؤلاء لا يدخلون تحت مسمى أهل السنّة الجماعة، بل هم خارجون عنه. "وقد نصّ الإمام أحمد وابن المديني على أن من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أهل السنة وإن أصاب بكلامه السنّة، حتى يدع الجدل ويسلّم للنصوص. فلم يشترطوا موافقة السنّة فحسب، بل التلقي والاستمداد منها، فمن تلقى من السنّة فهو من أهلها وإن أخطأ، ومن تلقى من غيرها فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة"ينظر: منهج الأشاعرة في العقيدة، د. سفر الحوالي، ص (15)..
لكن إن أطلق اسم أهل السنّة والجماعة في مقابل الشيعة، فإنه يشملهم.
وقد عبّر العلماء عمن يدخل تحت مسمّى أهل السنة بمسمّيات أخرى، منها:
- أهل السنّة (دون ذكر الجماعة)
- الجماعة، وأهل الجماعة (دون ذكر السنّة)
- أهل الحديث:
والمراد بهم: كل من اتبع السنة وعمل بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد من يشتغل بعلم الحديث رواية ودراية دون غيرهم، قال ابن تيمية: "ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم: كل من كان أحقّ بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً، واتّباعه باطناً وظاهراً، وكذلك أهل القرآن، وأدنى خصلة في هؤلاء: محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبهما. ففقهاء الحديث أخبرُ بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتُهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحقّ بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم"مجموع الفتاوى (4/95)..
ومن أقوال العلماء في ذلك:
قول الترمذي: "سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: وذكر هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) فقال علي: هم أهل الحديث"سنن الترمذي، عند الحديث رقم (2229)..
وقال النووي: "وأما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم، وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري مَنْ هم! قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد: أهل السنة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث"المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (13/66-67)..
وقال أبو بكر الإسماعيلي: "اعلموا رحمنا الله وإياكم أن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله تعالى، وصحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا معدل عن ما ورد به ولا سبيل إلى رده، إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة، مضموناً لهم الهدى فيهما، مشهوداً لهم بأن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- يهدي إلى صراط مستقيم، محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم"اعتقاد أئمة الحديث ص (49)..
والسبب في ذلك ما بيّنه ابن تيمية، حيث قال: "ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصّها بعلم الرسول وعلم خاصته: مثل الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ومثل: أُبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، ومثل سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، وعباد بن بشر، وسالم مولى أبي حذيفة، وغير هؤلاء: ممن كان أخصّ الناس بالرسول وأعلمهم بباطن أموره وأتبعهم لذلك، فعلماء الحديث أعلم الناس بهؤلاء وببواطن أمورهم وأتبعهم لذلك، فيكون عندهم العلم: علم خاصة الرسول وبطانته ... فهم أعلم الأمة بحديث الرسول وسيرته ومقاصده وأحواله"مجموع الفتاوى (4/91-95)..
4. أهل الأثر:
ويقصد بهم أهل الحديث، فإن معنى الأثر كما استقر عليه الاصطلاح: ما أضيف إلى الصحابي أو التابعي، وقد يراد به ما أضيف إلى النبي -صلّى الله عليه وسلّم- مقيداً فيقال: وفي الأثر عن النبي صلّى الله عليه وسلم.
قال اللالكائي: "ووجدت في بعض كتب أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي -رحمه الله- مما سمع منه, يقول: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان, وترك النظر في موضع بدعهم, والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل, وإسحاق بن إبراهيم, وأبي عبيد القاسم بن سلام, والشافعي، ولزوم الكتاب والسنة, والذبّ عن الأئمة المتبعة لآثار السلف, واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار مثل: مالك بن أنس في المدينة, والأوزاعي بالشام, والليث بن سعد بمصر, وسفيان الثوري, وحماد بن زياد بالعراق، من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين، وترك رأي الملبّسين المموهين المزخرفين الممخرقين الكذابين"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/202)..
5. السلف:
والسلف في اللغة: كل من تقدّم في الزمانينظر: مقاييس اللغة (3/95)..
وفي الاصطلاح: هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وأتباع التابعين ومن جاء بعدهم من أئمة الدين وأعلام الملة الذين ساروا على منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاعتقاد والقول والعمل ولم يخالفوا في شيء من ذلكينظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، ص (503)..
فكلمة السلف تشمل:
- الصحابة
- والتابعين
- وتابعيهم
- والأئمة الأعلام كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد
- والبخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد
- وغيرهم ممن شُهِد لهم بالإمامة في الدين والورع والتقوى ظاهراً وباطناً، وتلقى الناس كلامهم بالقبول والعمل به، دون اعتبار لزمن معين.
ويخرج عن السلف: كل من رُمِيَ ببدعة أو اشتهر بلقبٍ غير مرضيّ من الفرق المخالفة للسنة كالروافض، والخوارج، والقَدَرية، والمرجئة، والجبرية، والمعتزلة، والمشبّهة أو المجسِّمة وسائر الفرق الضالة، فهؤلاء ليسوا على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، بل هم مخالفون لهم، ومخالفون لأهل السنة والجماعة من فقهاء الأمة وعلمائها الذين يقتدى بهم في الدين.
ويخرج عن السلف كل من طعن في الصحابة أو التابعين أو الأئمة الأعلام المرضيين، أو انتهج منهجاً يخالف منهجهم سواء في الاستدلال، أو في فهم الدين والعمل به، أو انتسب إلى أشخاص في مسائل العقيدة الكبرى، فإنه حينئذ على ما كان عليه ذلك المتبوع لا على ما كان عليه -محمد صلى الله عليه وسلم- وأصحابهينظر: لوامع الأنوار البهية، (1/20)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، ص (421, 422)، نموذج من الأعمال الخيرية، ص(11،12)، الحجة في بيان المحجة، (2/473-476)، أهل السنة والجماعة، معالم الانطلاقة الكبرى، ص (51،52)، مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، ص (151)..
- خامسًا: منهج أهل السنة والجماعة وأبرز خصائصهم.
الانتساب إلى أهل السنة والجماعة ليس مجرّد ادعاء، فكثيرون هم الذين يدّعون أنهم من أهل السنة والجماعة، بل ويحصرون هذه التسمية بهم وينفونها عمن سواهم! وكثيرٌ مَنْ يسمي نفسه سلفي أو أثري لكنه بعيد كل البعد عن المنهج الحق الذي رسم معالمه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا عليه وأصحابي).
فالعبرة باتباع منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، والتمسك بسنّتهم، لا بالمسميات.
ومن أهم معالم منهج أهل السنّة والجماعة:
1. تلقي العقيدة وسائر فروع الشريعة من الوحي بشقّيه: القرآن الكريم، وسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم التفريق بينهما، فكلاهما وحي من عند الله.
2. فهم القرآن الكريم وتفسيره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم، وسلف الأمة من العلماء المشهورين، ووفق قواعد اللغة العربية، دون تأويل فاسد يُخرج النص عن معناه الذي أراده الله تعالى.
3. الاعتماد على الأحاديث الصحيحة، ونبذ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة وغيرها، إذا صحَّ وتلقتْه الأمة بالقبول، واعتقاد أنه يفيد العلم.
4. اتباع منهج الخلفاء الراشدين، وسائر الصحابة رضي الله عنهم في فهم الدين والعمل به، فهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وشهدوا نزول الوحي، وعلموا تفاصيل الشريعة ومقاصدها، وهم أعلم الأمة بالقرآن الكريم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وباللغة العربية.
5. تقديم النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة على العقل عند توهُّم التعارض، وإلا ففي الحقيقة والواقع لا يتعارض النقلُ الصحيح مع العقل الصريح، مع إعمال العقل في ميدانه الرحب الفسيح المتمثل في فهم النصوص، ومعرفة العلوم، والمقارنة بين الأدلة والترجيح.
6. تقديم النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة على كلام سائر الخلق عند التعارض، وعدم التعصب لقول أحد من الناس، ويوالون ويعادون عليه!
قال شيخ الإسلام: "وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله، وما اجتمعت عليه الأمة ، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يعادون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام ويعادون"مجموع الفتاوى (20/164)..
7. لا يتسمّون إلا باسم الإسلام والسنة والجماعة، بخلاف غيرهم الذين يتسمّون بأسماء الأشخاص أو يُنسبون إليهم، كالجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان، أو إلى أصل من أصول الضلالة كالقدرية والمرجئة، أو إلى وصف يدل على حقيقتهم وشعارهم كالرافضة والصوفية والمعتزلة وغيرهم، فإن الانتساب إلى الأشخاص أو الفرق من فعل أهل البدع، ومخالفةٌ صريحة لمنهج الجماعة: (ما أنا عليه وأصحابي).
"جاء رجل إلى مالك، فقال: يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بيني وبين الله عز وجل، قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سَلْ، قال: مَنْ أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يُعرفون به، لا جهمي ولا قدري ولا رافضي"الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، لابن عبدالبر، ص (35)..
8. اتباع السنّة ونبذ البدعة بكافة أنواعها، سواء في الاعتقادات أو العبادات، أو السلوك وتزكية النفس.
9. الرد على أصحاب البدع بالأدلة النقلية والعقلية المبنيَّة على الكتاب والسنة، مع التركيز على نقد الأساليب الكلامية المبنية على غير الكتاب والسنة التي يستخدمها أهل البدع.
10. عدم الاختلاف في أصول الاعتقاد: فالسلف الصالح لم يختلفوا -بحمد الله- في أصل من أصول الدين، وقواعد الاعتقاد، فقولهم في أسماء الله وصفاته وأفعاله واحد، وقولهم في الإيمان وتعريفه ومسائله واحد، وقولهم في القدر واحد، وهكذا في باقي الأصول. بخلاف أهل البدع، فإنهم أنفسهم لا يتفقون على أصولهم، بل إن الفرقة الواحدة منهم لا يتفق أفرادها كل الاتفاق على أصل من أصولهم.
11. التوسط في التعامل مع الخلق، فأما المؤمنون فيحبّونهم ويوالونهم بحسب ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح، ولا يكفّرون عصاتهم أو المتلبسين منهم بالبدع والمنكرات، ويرحمونهم ويشفقون عليهم. أما الكفار فإنهم يعادونهم ويُبغضونهم، لكن لا يعتدون عليهم أو يظلمونهم.
12. الوسطية:
فهم وسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبّهة.
وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم.
وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية وغيرهما.
وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية.
وفي باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارجمجموع الفتاوى (3/141)..
لتحميل الملف بجودة عالية.. من المرفقات أعلاه ⇧ |
إضافة تعليق جديد