فتوى حول حكم التنسيق مع الحكومة التركية في القضاء على تنظيم داعش
السؤال: ما حكم التعاون والتنسيق مع الحكومة التركية فيما تريد أن تقوم به من القضاء على "داعش" وتوفير منطقة آمنة قرب حدودها ؟ وهل يجوز للكتائب والفصائل المجاهدة أن تتحالف مع تركيا وتتعاون في ذلك وخاصة أن بعضهم قد أفتى بحرمة ذلك بل جعله من التولي لأعداء الله الذي يصل إلى حد الكفر؟ أفتونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فلا يمكن معرفة حكم هذه النازلة حتى نعرف واقعها، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره فلا بد من معرفة حقيقة "داعش" وأفعالها، وحال الحكومة التركية وما تود فعله، ثم معرفة القواعد الشرعية والمقاصد المرعية حتى تُنزّل الأحكامُ التي يراعى فيها تحقيق المصالح ودفع المفاسد بقدر الإمكان، فنقول والله المستعان:
- أولاً:
إن تنظيم "داعش" هو تنظيم قد جمع بين غلوّه في الاعتقاد والقول والعمل واختراقه الذي يصل إلى حد العمالة على مستوى القادة الذين يملكون اتخاذ القرار ولاسيّما القرار القتالي، فهم خوارج كما أجمع على ذلك من يُعتدّ بقوله من العلماء والمشايخ وطلبة العلم والهيئات والروابط العلمية والشرعية، بل إن كثيراً ممن كانوا يعظّمون هذا التنظيم وتربوا في أحضان فكره الغالي تبرؤوا منه وحكموا عليه بالغلو والتشدد. وهم في الواقع مطيّة أعداء الله في تحقيق أهدافهم في ضرب الجهاد الشامي، وإذا كان بعض العلماء قد كفّر الخوارج الأوائل مع زهدهم وعبادتهم مع عدم تعاونهم مع أعداء الله في ذلك الزمان كالفرس والروم، فكيف لو رأى "داعش" وأفعالها وبخاصة أنها ترفض أن تحتكم في خلافها مع غيرها إلى شرع الله، وتظاهِر أعداء الله ضد المجاهدين، وهي تكفّر غيرها بهذه الأعمال بل بما هو دونها في الجرم والمخالفة، وقد ترتّب على ظهور هذا التنظيم مفاسد عظيمة من تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وتعويق الجهاد في العراق والشام، وتحقيق مآرب الأعداء وكذلك ما تركته من آثار على الأجيال القادمة، إذ تدفع بالأطفال إلى الغلو والإجرام مما ينذر بقارعة عظيمة في المستقبل لا قدّر الله.
ولـمّا كان هذا أمرَهم: وجب جهادُهم بالسيف والسنان وبالحجة والبيان، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا لقتالهم وقتلهم بل ولاستئصالهم، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عليّ -رضي الله عنه- قال سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: (سيخرُجُ قوم في آخِرِ الزَّمانِ حُدَثَاءُ الأسنانِ، سُفهاءُ الأحلام، يقولون من قول خير البرَّيةِ، يقرؤون القُرآن، لا يجاوِزُ إيمانُهم حَنَاجِرَهُمْ، يمرُقُون من الدِّين كما يمرُقُ السَّهمُ من الرَّميةِ، فأينما لِقَيْتمُوهم فاقتلُوهُم، فإنَّ في قَتْلِهم أجراً لمن قَتَلَهُم عندَ الله يومَ القيامةِ)، وكذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان، لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتل عاد)، وفي رواية: (لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتل ثمود).
بل وأخبر -عليه الصلاة والسلام- عن الأجر الكبير المترتب على قتالهم، فقال -كما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن وهب الجهني رضي الله عنه- (لو يعلم الجيشُ الذين يصيبونهم ما قُضِيَ لهم على لسان نبيهم -صلى الله عليه وسلم- لَنَكَلُوا عن العمل)، ومعناه أنهم تركوا باقي الأعمال الصالحة واقتصروا منها على قتالهم، وفي رواية صحيحة: (طُوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، مَن قاتلهم كان أولى بالله منهم)، وبناءً عليه: فيجب على جميع المجاهدين في بلاد الشام تنفيذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم، ولاسيّما قد زاد فتك "داعش" بخيرة العاملين في ساحات القتال والإغاثة والإعلام والقضاء والدعوة إلى الله، ممن لم يقدر النظام المجرم عليهم، فاستطاع هؤلاء بغدرهم وحقدهم النيل منهم، وساعد في ذلك الورع البارد الذي أصيب به كثير من المقاتلين الذين نكصوا عن قتال "الدواعش" بدعوى خوف الفتنة أو أنهم إخواننا، ومردّ ذلك إلى الجهل والـتأصيل الفاسد.
- ثانياً:
لقد حقّقت الحكومة التركية الحالية منذ استلامها للحكم كثيراً من المكتسبات المادية والمعنوية على الصعيد الداخلي والخارجي من إظهار للشعائر الإسلامية وتحقيق التنمية الاقتصادية، فضلاً عن الاهتمام ومناصرة قضايا المسلمين في العالم، ولاسيّما قضية فلسطين والثورة السورية، فإنها منذ اليوم الأول وقفت مع الشعب السوري المظلوم وتطلعاته، ووقفت معه في جميع المحافل بعد أن تخلى عنه القريب والبعيد والعدو والصديق، ولـمّا شُرّد الشعب عن دياره كانت تركيا الدولة الأولى في حسن استقبال الشعب المستضعف، فآوته ودعمته بالطعام والشراب والمسكن والرعاية الصحية والتعليم وتسهيل الدخول، واحتضنت كل الفعاليات الثورية، وهذا ما لم تفعله كثير من الدول.
وتركيا من حيث العموم دولة مسلمة وشعبها مسلم وتسعى الحكومة فيها لتطبيق الشريعة قدر الإمكان، ولا يخفى أن حكومتها جاءت على أوضاع سابقة حاولت قدر المستطاع إزالة ما يعارض الشريعة منها، وفق رؤية اجتهادية متدرجة، فإنه من الجهل والظلم الحكم على هذه الحكومة بالكفر والردة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لّما توفي النجاشي ملك الحبشة نعاه لأصحابه في اليوم الذي مات فيه، وخرجَ بهم إِلى المُصلَّى وصفَّ بهم وصلى عليه الجنازة فكبَّر عليه أربعَ تكبيرات، وقال: استغفروا لأخيكم، مع أن النجاشي كان ملكاً أسلم ولم يقدر على تطبيق الشريعة كما أمر الله سبحانه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (5/ 112) :"وكذلك النجاشي، هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا لما مات لم يكن هناك من يصلي عليه، فصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفاً وصلى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات، وقال: (إن أخاً لكم صالحاً من أهل الحبشة مات)، وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها، لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يكن يصلي الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم.
ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم، وفي الديّات بالعدل والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع: النفس بالنفس، والعين بالعين، وغير ذلك، والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن; فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً -بل وإماماً- وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها" أ.هـ
وبناءً على ما تقدّم فإننا نقول إنه لا مانع من التعاون والتنسيق مع الحكومة التركية للقضاء على المعادين للثورة السورية ولا سيّما "داعش" المجرمة، لما يلي:
-
1. إن القضاء على "داعش" من أعظم البر والتقوى، والله قد دعا إلى التعاون على ذلك بقوله : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2]. وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية مع المشركين قال النبي صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطَّة يعظّمون فيها حُرُماتِ الله إلا أعطيتُهم إِياها).
ومما ذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/ 269) من الفوائد الفقهية في قصة الحديبية عندما قال: "ومنها: أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ لله تعالى مُرْضٍ له، أُجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس"، والقضاء على "داعش" فيه تحقيق لأعظم مطلوب شرعي في سوريا وهو حقن دماء المجاهدين وأموالهم.
-
2. وعلى فرض توقع مفسدة من التدخل التركي فإنه لن يصل إلى درجة المفسدة التي ترتبت على أقوال وأفعال "داعش"، فإنه ليس هناك شرٌ على الأمة كالخوارج، وشرّ "الدواعش" فوق شر الخوارج الأوائل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (شَرُّ قتلى تحت أديم السماءِ). قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (5/ 248): "أي أنهم شرٌ على المسلمين من غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شراً على المسلمين منهم: لا اليهود ولا النصارى; فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفّرين لهم، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة". والقاعدة تقول: تدفع أعلى المفسدتين بأدناهما، فإن "داعش" مجتهدة ومازالت في سفك دماء المسلمين والمجاهدين، وإن الأتراك لن يسعوا إلى قتل المجاهدين بل يساعدونهم.
-
3. ثم على فرض القول بالمنع والتحريم لهذا التعاون فإنه يكون جائزاً ومباحاً بل قد يصل إلى الوجوب، لأن الشعب السوري في أعلى درجات الضرورة، فقد أحاطت به البلايا من كل جانب، فقد استحرّ القتل، واستبيحت الأعراض والأموال، وهُدم البنيان، وشُرّد الملايين في بقاع الأرض كلها، ومات الكثير منهم جوعاً وبرداً، والقاعدة المقررة: أنّ الضرورات تبيح المحظورات، حتى الذين منعوا الاستعانة بالكافر على المسلم أباحوه للضرورة، جاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (2/ 549): "ولا يُستعان عليهم بكافر لأَنَّه يحرم تسليطه على المسلم إِلَّا لضَرُورَة"، وقال ابن حزم في المحلى بالآثار (11/ 355): "اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: لا يجوز أن يستعان عليهم بحربي ولا بذمي، ولا بمن يستحل قتالهم مدبرين، وهذا قول الشافعي رضي الله عنه، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا بأس بأن يستعان عليهم بأهل الحرب، وبأهل الذمة، وبأمثالهم من أهل البغي، وقد ذكرنا هذا في "كتاب الجهاد "من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إننا لا نستعين بمشرك) وهذا عمومٌ مانع من أن يستعان به في ولاية، أو قتال، أو شيء من الأشياء، إلا ما صح الإجماع على جواز الاستعانة به فيه: كخدمة الدّابة، أو الاستئجار، أو قضاء الحاجة، ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن الصغار. والمشرك: اسم يقع على الذمي والحربي"، ثم قال :"هذا عندنا -ما دام في أهل العدل مَنَعَةٌ- فإن أشرفوا على الهَلَكة واضطروا ولم تكن لهم حيلة، فلا بأس بأن يلجؤوا إلى أهل الحرب، وأن يمتنعوا بأهل الذمة، ما أيقنو أنهم في استنصارهم لا يؤذون مسلماً ولا ذمّياً في دم أو مال أو حرمة مما لا يحل، برهان ذلك: قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وهذا عموم لكل من اضطر إليه، إلا ما منع منه نص، أو إجماع".
-
4. وينبغي التفريق بين الاستعانة والتولي لأعداء الله، فإن مسألة الاستعانة دائرة بين الجائز والمحظور غيرِ المكفّر، وأما التولي الذين يكون كفراً فهو مظاهرة أعداء الله على المسلمين، ويكون القصد منه إعلاء كلمة الكفر على كلمة الإيمان، وأمّا إن كان قصده بهذه المظاهرة دنيا يصيبها فهذه من جنس المعاصي، وقد تكون كبيرة إلا أنها ليست كفراً مخرجاً من الملة، ولو كانت كفراً لما أجاز بعض العلماء الاستعانة، بل وجدنا الذين حرّموها أجازوها عند الضرورة كما تقدم، جاء في كتاب المبسوط للسرخسي (10/ 134): "ولا بأس بأن يستعين أهل العدل بقوم من أهل البغي وأهل الذمة على الخوارج، إذا كان حكم أهل العدل ظاهراً، لأنهم يقاتلون لإعزاز الدين"، وكذلك فإن التحالف لإنصاف المظلومين وتحقيق العدالة من أبرز معالم السياسة الشرعية في الإسلام، وحلفُ الفضول خيرُ شاهد على ذلك، وقد جاء ذلك جلياً في قوله عليه الصلاة والسلام: (ولئن دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت).
-
5. وينبغي أن نعلم أن الحكومة التركية لا تنتظر منا فتوى بالجواز أو المنع، وإنما ستقوم بما يحقق مصالحها بقتالها لهؤلاء الدواعش والماركسيين من الـ (بي كي كي)، فلأن نتعاون وننسق معها بما يحقق مصالح الشعب السوري خيرٌ لنا في الحال والمآل، وإن عدم ذلك سيفوّت علينا مصالح كثيرة، فضلاً من أن نقف في وجهها أو نحاربها ونكفرها ونضللها، فإن ذلك سيفقد الشعب السوري الرئة التي يتنفس منها في ثورته.
وفي الختام: ليتق اللهَ الغلاةُ الذين يطلقون الفتاوى بغير علم، ليضلوا بها الناس، فيضلوا ويُضلّوا عن الصراط المستقيم، ويحرّفون بذلك الكلم عن مواضعه، وينزلون الأحكام في غير مواقعها.
اللهمّ هيئ لنا من أمرنا رشدا، وألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، وفرج عن بلدنا وعن بلاد المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.