الأحد 22 ديسمبر 2024 الموافق 20 جمادي الثاني 1446 هـ

شبهات وردود

شبهات تنظيم الدولة وأنصاره والرد عليها: الشبهة الأولى: لا يفتي قاعدٌ لمجاهد

10 رمضان 1437 هـ


عدد الزيارات : 8482
عماد الدين خيتي

 


 

تقول الشُّبهة: بداية كيف تتكلمون في أمور الجهاد والمجاهدين، ومعلوم أنَّه (لا يفتي قاعدٌ لمجاهد)، فلا يؤخذ إلا قولُ أهلِ الثّغور مِن المجاهدين في نوازل الجهادِ، ومستقبل الأمّة، وأمورها العظام؛ فاللهَ تعالى فضَّل المجاهدين على القاعدين بقوله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:95].

الإجابة عن هذه الشبهة:

  • أولًا:

إنَّ مقولةَ (لا يفتي قاعدٌ لمجاهد) ليست مِن القواعد الفقهية، أو الأصول الشّرعية التي يُعرف بها الحقُّ، وليس لها مستندٌ مِن نصوص القرآن أو السنّة، ولم يجعلها أهلُ العلم مقياسًا لمعرفة الحقِّ مِن الباطل، بل ذلك مِن البدع الـمُحدثة التي تخالف نصوصَ الشّرع، وقواعد الاستدلال.

إذ إنَّ معرفةَ الحقِّ مِن الباطل، والإصابةَ في الفتوى ليست منوطةٌ بالجهاد أو العبادة، وإنّما بالاستدلال وطرائقه، وقد بيَّن أهلُ العلم شروطَ المفتي مستمَدّةً مِن الأدلة المعتبرة، ومِن تلك الشّروطينظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، في دورته السابعة عشرة بعمان عام 1427هـ-2006م، وللتوسع يمكن الرجوع لكتب أهل العلم التي تناولت أحكام الفتوى والمفتي، ومنها: الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، وأدب المفتي والمستفتي، للنووي، وصفة الفتوى، لابن حمدان، وإعلام الموقعين، لابن القيم.:

  1. العلمُ بكتاب الله تعالى، وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بهما مِن علومٍ.

  2. العلمُ بمواطن الإجماع والخلاف والمذاهب والآراء الفقهية.

  3. المعرفةُ التّامّةُ بأصول الفقه ومبادئه وقواعده، ومقاصد الشّريعة، والعلوم المعينة على فهم الكتاب والسّنّة مثل: النحو، والصرف، والبلاغة، واللغة، وغيرها.

  4. المعرفةُ بأحوال النّاس وأعرافِهم، وأوضاع العصر ومستجداته، ومراعاة تغيُّرها فيما بني على العرف المعتبر الذي لا يصادم النّصَّ.

  5. الملكة الفقهية التي تؤهل لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص.

  6. الرجوعُ إلى أهل الخبرة في التّخصُّصات المختلفة؛ لتصور المسألة المسؤول عنها، كالمسائل الطبية والاقتصادية ونحوها.

ولم يذكروا مِن شروط المفتي أنْ يكون مقاتلًا أو مجاهدًا، أو مقيماً بمناطق الثّغور، بل إنَّ العالمَ يُؤخذ بقوله أيًا كان موقعُه، والجاهل يُترك قولُه أيا كان مكانُه وعملُه.

والكثيرُ مِن الأئمّةِ وأهلِ العلم لم يكونوا مِن أهل الغزو، كالأئمّة الأربعة، إلا أنَّ ما كتبوه وأفتوا به في باب الجهاد كان وما يزال عمدةً في الفقه الإسلامي، ومرجعًا للعلماء في كلِّ العصور.

وإنّما يجب على الفقيه أنْ يعرف حقيقةَ ما يفتي به معرفةً حقيقيةً تُمكّنه مِن تصوّر المسألة تصورًا صحيحًا، يُبني عليه الحكمُ الشّرعي.

قال ابنُ القيّم رحمه الله: "ولا يتمكّن المفتي، ولا الحاكمُ مِن الفتوى والحكمِ بالحقِّ إلا بنوعين مِن الفهم:

أحدهما: فهْمُ الواقع والفقهُ فيه، واستنباطُ علمِ حقيقةِ ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علمًا.

والثّاني: فهمُ الواجب في الواقع، وهو فهمُ حُكمِ الله الذي حكَم به، في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبّق أحدَهما على الآخر"إعلام الموقعين (1/96)..

وتصوُّر المسألةِ يحصل بالنَّقل والإخبار، ولا يُشترط وجودُ العالم أو الفقيه في مكان الحدث وزمانه، ولا يلزمُ وقوفُه عليه بنفسِه، وما زال أهلُ العلم والفتوى يجيبون ويفتون عما يُرسَل إليهم مِن المسائل وهم في بلدانهم، بل ربّما وضعوا الكتب الطوال في الإجابة عن ذلك.

  • ثانيًا:

للعالم فضلٌ ومكانةٌ في الإسلام لا يشاركه فيها أحدٌ غيره، ونصوصُ القرآن والسّنّة مشهورةٌ معلومةٌ في ذلك، ومنها:

- قوله تعالى: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَائِمًا بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [آل عمران:18].

قال ابن كثير رحمه الله: "قَرَنَ شهادةَ ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ} وهذه خصوصيةٌ عظيمةٌ للعلماء في هذا المقام"تفسير القرآن العظيم "تفسير ابن كثير" (2/24)..

وقال ابنُ القيم رحمه الله: "استشهد سبحانه بأولي العلم على أجلّ مشهودٍ عليه وهو توحيدُه، وهذا يدلّ على فضلِ العلم وأهله"مفتاح دار السعادة (1/48)..

- وقد شهد النّبيُّ صلى الله عليه وسلم للعلماء بوراثة علمِ ومكانةِ الأنبياء، فقال: (وإنّ فضلَ العالمِ على العابِدِ كفضل القَمَرِ ليلةَ البدرِ على سائر الكواكِبِ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء)أخرجه أبو داود (5/485، برقم 3641)، والترمذي (5/48، برقم 2682)، وابن ماجه (1/151، برقم 223)..

وذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدُهما عابدٌ، والآخرُ عالمٌ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ)أخرجه الترمذي (5/50، برقم 2685)..

- ومهما بلغ المجاهدُ في سبيل الله –تعالى- مِن الأجرِ والفضلِ فإنَّ للعالم العامل بعلمه فضلًا يفوق ذلك؛ فالجهادُ نوعٌ مِن العبادة، وفضلُ العالم على العابد كبيرٌ.

وما جاء في الأحاديث أنَّ أفضل الأعمالِ الجهادُ، كحديث: (قيل: يا رسولَ الله أيُّ النّاسِ أفضلُ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : مؤمنٌ يجاهد في سبيل الله بنفْسِه وماله)أخرجه البخاري (4/15، برقم 2786)، ومسلم (3/1503، برقم 1888).، فلا تعني الأفضليةَ على الإطلاق، وقد بيَّن أهلُ العلم المرادَ بذلك:

قال العيني رحمه الله: "قالوا: هذا عامٌ مخصوصٌ، تقديرُه: هذا مِن أفضل الناس؛ وإلا فالعلماءُ أفضل، وكذا الصّدّيقون كما جاءت به الأحاديث"عمدة القاري شرح صحيح البخاري (14/83)..

وقال القسطلّاني رحمه الله: "وعند النّسائي: (إنّ ِمِن خيرِ النّاسِ رجلًا عمل في سبيلِ اللهِ على ظهر فرسِه) بمِن التبعيضية، وذلك يُقوّي قولَ مَن قال: إنّ قولَه: (مؤمنٌ يُجاهدُ) المقدَّر بقوله: (أفضلُ الناس مؤمن يجاهد) عامٌّ مخصوص، وتقديره: مِن أفضل النّاس؛ لأنَّ العلماءَ الذين حملوا النّاس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل"إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (5/34)..

وكونُ الشخصِ أفضلَ في دِينه وتعبُّده لا يعني استقلالَهُ بالفتوى وأنَّه أحق بها؛ فَمناطُ الفتوى العِلم وليسَ الأفضلية.

- بل إنّ ما يقوم به أهلُ العلمِ مِن توضيح معالم الدّين، وبيان الأحكام الشرعية، وردّ ما يخالفُ الشّريعةَ يُعَدُّ مِن أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى.

قال ابن القيم رحمه الله: "وإنّما جُعل طلبُ العلم مِن سبيل اللهِ؛ لأنَّ به قوامَ الإسلام، كما أنّ قوامه بالجهاد، فقوامُ الدّين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهادُ نوعين: جهادٌ باليد والسِّنان، وهذا المشاركُ فيه كثيرٌ، والثاني الجهادُ بالحجّة والبيان، وهذا جهادُ الخاصّة مِن أتباع الرُّسل، وهو جهادُ الأئمّة، وهو أفضلُ الجهادين؛ لعظَم منفعتِه، وشدّة مؤنته، وكثرة أعدائه... وجاء عن بعضِ الصّحابة رضي الله عنهم: (إذا جاء الموتُ طالبَ العلم وهو على هذه الحالِ مات وهو شهيدٌ)، وقال سفيانُ بن عيينة: (مَن طلب العلم فقد بايع الله عز وجل)، وقال أبو الدرداء: (مَن رأى الغدوَّ والرّواحَ إلى العلم ليس بجهادٍ فقد نقص في عقله ورأيه)"مفتاح دار السعادة (1/70)..

  • ثالثًا:

أمّا قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 94-95]، فلا يدلُّ على ما فهمه الغلاةُ مِن أنَّه تفضيلٌ مطلقٌ للمجاهدين على غيرهم، بمَن فيهم أهلُ العلم، وليس في الآية تفضيلٌ للمقاتلين على غيرهم بإطلاق؛ إذ إنَّ هذه الآية مسوقةٌ لبيان فضلِ مَن جاهد في سبيل الله تعالى بماله ونفْسه على القاعد عن الجهادِ، وليس لبيان فضل المجاهدين على أهل العلم.

قال البيضاوي رحمه الله: "أي لا مساواةَ بينهم وبين مَن قعد عن الجهاد مِن غير عِلّةٍ، وفائدتُه تذكير ما بينهما مِن التفاوتِ؛ ليرغب القاعدُ في الجهاد رفعًا لرتبته، وأنَفَةً عن انحطاط منزلته"أنوار التنزيل وأسرار التأويل "تفسير البيضاوي" (2/91)..

كما أنَّ الآية قرّرت أنَّ مَن قعد عن القتال لعذرٍ فإنَّ له مثلَ أجر المجاهدين.

قال القرطبي رحمه الله: "وصحّ وثبت في الخبر أنّه عليه السلام قال وقد قفل مِن بعض غزواته: (إنَّ بالمدينةِ رجالًا ما قطعتم واديًا، ولا سرتم مسيرًا، إلا كانوا معكم، أولئك قومٌ حبسهم العذرُ)أخرجه البخاري (6/8، برقم4423)، ومسلم (3/1518، برقم 1911).، فهذا يقتضي أنَّ صاحبَ العُذر يُعطى أجرَ الغازي، فقيل: يحتمل أنْ يكون أجرُه مساويًا، وفي فضل الله متَّسعٌ، وثوابُه فضلٌ لا استحقاقٌ، فيُثيب على النّية الصّادقة مالا يُثيب على الفعل، وقيل: يُعطى أجرَه مِن غير تضعيفٍ، فيَفْضُله الغازي بالتّضعيف للمباشرة. والله أعلم.

قلتُ: والقولُ الأوّلُ أصحُّ إن شاء الله؛ للحديث الصحيح في ذلك (إنَّ بالمدينةِ رجالًا)، ولحديث أبي كَبْشةَ الأنماري قوله عليه السلام : (إنّما الدّنيا لأربعةِ نفرٍ...) الحديث)"الجامع لأحكام القرآن "تفسير القرطبي" (5/342). وحديث أبي كبشة أخرجه الترمذي (4/563، برقم 2325) بلفظِ : (إنّما الدنيا لأربعةِ نفرٍ: عبدٍ رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربَّه، ويصِل فيه رحِمَه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو صادقُ النّيةِ؛ يقولُ: لو أنّ لي مالًا لعملتُ بعمل فلانٍ، فهو بنيته فأجرهما سواءٌ، وعبدٍ رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا، فهو يخبِط في ماله بغير علمٍ، لا يتقي فيه ربَّه، ولا يصل فيه رحمَه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالًا، ولا علمًا فهو يقول: لو أنّ لي مالًا لعملتُ فيه بعمل فلانٍ، فهو بنيته، فوزرُهما سواءٌ)..

فإذا كان تَركُ القتال مِن أجل الاشتغال بالعلم، وتعليم الناس، وإفتاء المجاهدين، ونصرتهم باللّسان: فإنَّ ذلك مِن الجهاد، بل قد يكون أفضلَ مِن عمل كثيرٍ المجاهدين المقاتلين، كما يشمل ذلك الفضل كل من كان له عملٌ في دعم الجهاد، أو كان في حاجة المجاهدين، أو خَلَفهم في أهلهم بخيرٍ مِن الإغاثيين، والأطباء، والإعلاميين، ونحوهم، ومَن شارك في الجهاد بأيِّ نوعٍ من أنواعِه فليس مِن المضيّعين المفرّطين، فكيف إذا كان يشارك بعلمه وتوجيهه وفتاواه للمجاهدين؟!.

بل إنَّ كثيرًا من العبادات جاء ذكرها في الشرع بألفاظ التفضيل مثل (أفضل)، فهل يعني ذلك أنَّ مَن تمسك بعبادة منها أنَّه جديرٌ بالحق، بسبب هذا التفضيل؟

قال ابنُ دقيق العيد رحمه الله: "وقد اختلفت الأحاديث في فضائلِ الأعمال، وتقديمِ بعضها على بعض، والذي قيل في هذا: إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص، أو من هو في مثلِ حاله، أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التي تُرشد القرائن إلى أنَّها المراد...

ولو خُوطب بذلك الشجاع الباسل المتأهّل للنفع الأكبر في القتال لقيل له "الجهاد"، ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال ولا يتمحّض حاله لصلاحية التبتّل لذكر الله تعالى، وكان غنيًا يُنتفع بصدقة ماله لقيل له "الصدقة"، وهكذا في بقية أحوال الناس، قد يكون الأفضل في حق هذا مخالفًا في حق ذاك، بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به"إحكام الأحكام (1/163).. فليس الجهاد هو العبادة الوحيدة الذي جاء تخصيصه بفضل، مما يدل على أنَّ هذا التفضيل ليس بإطلاق.

  • رابعًا:

على فرضِ علم المجاهدين بالواقع فإنَّه لا يعني معرفتَهم بالحكم، أو أحقّيتَهم بالفتوى؛ إذ الحكمُ الشّرعي يؤخذ مِن كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعارفُ بهما هو العالم.

قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْم الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 82].

فمسائلُ الشّرع لا يُقدَّم فيها قولُ المجاهد على العالم، ولا يُعتبر قولُ المجاهد إلا أن يكون مِن أهلِ العلم والفتوى، كما لا يُقدَّم قولُ عالمٍ في الثّغور على عالمٍ غيرِ مقاتلٍ في مسائل الشّرع والتّأصيل؛ لمجرِّد مكان وجوده أو لقتاله، وإنّما يُقدّمُ لرجحان قوله وفتواه، وقوّةِ دليلِه كما قرّره أهلُ العلم، فكيف إذا كان ما يَعرِض للمجاهدين مِن القضايا والنّوازل الخطيرة: كأحكام الأسرى، والغنائم، والمعاهدات، وغيرها مما يحتاج إلى رسوخٍ في العلمِ، ومعرفةٍ تامّةٍ بمسائل الحلال والحرام؟! .

كما أنّ صفوفَ المجاهدين لا تخلو مِن وجود جهلةٍ، أو عصاةٍ، أو مَن يقاتل شجاعةً أو حميةً، وربما مَن  ليس مِن المجاهدين أصلًا! وجميعُ أولئك ليسوا مِن أهل الفتوى ولا القضاء، مهما علت مراتبُهم، أو تطاولت في ساحات المعارك إقامتُهم، أفتُقدّمُ أقوالُهم على أهل العلم والفتوى إذا لم يُقاتِلوا؟! .

أمّا في مجال العمل العسكري، والتخطيط الميداني للمعارك، وتدريب الجند، وتوزيعهم على الكتائب، وتقسيم الجيوش، وأنواع الأسلحة، ونحو ذلك مما هو مِن طبيعة الجهاد والقيادة، فيعود تقديرُه إلى أصحاب الخبرةٍ فيه، وهذا لا ينازعهم فيه العلماءُ.

  • خامسًا:

لو كان تقديمُ قولِ المجاهد على العالم صحيحًا لادَّعى أصحابُ الاختصاصات الأخرى، والمهن المختلفة أنّه لا يُؤخذ إلا بفتوى مَن يعمل عملَهم، أو مَن هو قريبٌ مِن صنعتهم، فالطبيبُ لا يأخذ إلا بفتوى طبيبٍ مثله، والصّانعُ لا يأخذ إلا بفتوى صانعٍ مثله، وكذا التّاجر، والمزارع، وغيرهم، وهذا قولٌ بيِّن الفساد والبُطلان. 

ومازال أهلُ الصّنائع والمهن والتّخصّصات المختلفة يرجعون لأهل العلم، ويُصوِّرون لهم المسائلَ ويُقرِّبونها؛ ليتمكن أهلُ العلم مِن إفتائهم فيها. وحديثًا فإنَّ مؤسسات البحث العلمي والإفتاء ترجع إلى أهل الخبرةِ والتّخصّص في كلِّ بابٍ؛ للسّؤال عمّا يخفى عليهم ممّا يتعلق بالمسائل التي يبحثونها؛ حتى تكون أبحاثُهم وفتاواهم مبنيةً على تصوّر صحيحٍ للواقع الذي يُفتون فيه.

فمآلُ هذه المقولةِ ردُّ أقوالِ العلماء الثّقات الأثبات المعروفين، حملةِ الدّين، وحرّاسِ الشرع، وحصنِه المنيع، الذين (ينفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين)أخرجه البزّار في مسنده (16/247، برقم 9423)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (10/17، برقم 3884)، والطبراني في مسند الشاميين (1/344 برقم599)،  والبيهقي في السنن الكبرى (10/353، برقم 20911) عن عددٍ من الصحابة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلمَ مِن كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين)، وفي ثبوته خلافٌ.، ولا يتحصّل العلمُ إلا عن طريقِهم، ولا يُتوصّل إلى الحقِّ إلا بهم، والأخذُ بأقوالِ مَن لم ترسخ قدمُه في العلم، ولم يُعرف بفقهٍ ولا علمٍلعلّ مِن أخطر ما يعمل عليه الغلاةُ خاصةً، وأهلُ الأهواء والشهوات عمومًا إسقاط مكانة العلماء وتشويهها، تارة بالتهوين من مكانتهم، وتارة بزعم عدم فهمهم أو علمهم بقضايا الواقع والجهاد والحكم والسياسة، وتارة بادّعاء التجرّد للحقّ واتباعه، وتارة بتخوينهم والطّعن فيهم بتهم إعانة الطّواغيت، أو موالاتهم، أو الخضوع لهم، أو وَسْمهم بأنهم علماء السلاطين، أو سدنة الشرك، وغير ذلك.. مع تنصيب رؤوسٍ جهّال يقررون لهم المسائل الكبار، ويفتونهم في الدماء والأعراض.. فإذا تزعزعت ثقةُ الشّباب بأهلِ العلم سقط هذا الحصنُ المنيعُ، ولم يبقَ للشّباب حصانةٌ أمامَ أيِّ فكرٍ أو انحرافٍ يُعرض عليهم؛ لعدم وجود مَن يرجعون إليه في هذه المدلهمات والخطوب.، فيحصلُ بذلك الانحرافُ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ لا يقبض العلمَ انتزاعًا ينتزعه مِن العباد، ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمُا اتخذ النّاسُ رؤوسًا جهّالًا، فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ، فضلّوا وأضلّوا)أخرجه البخاري (1/31، برقم 100)، ومسلم (4/2058، برقم 2673)..

وواقِعُ الغلاةِ أنَّهم لا يَقبلون حتى مَن كان مُجاهِدًا من العُلماء وطَلَبةِ العِلم، وساحاتُ الجهاد ملأى بهم، وهم منتشرونَ بين كافةِ الفصائل، بل كل من خَالَفهم كفَّروهُ وضَلَّلوه ولو كان من أهل السَّابقة في الجهاد؛ لذا فإنَّهم لا يَقبلونَ إلا من كان على مَنهجهم ولو لم يكن مجاهدًا، ويرفضونَ من خَالفهم ولو كان مجاهدًا.

  • والخلاصة:

أنَّه يجب الرّجوعُ لأقوالِ الثّقات الأثبات مِن أهل العلم، وأخذ الفتوى عنهم، سواء كانوا ممّن حمل السّلاحَ أم لا؛ فالعبرةُ بصحّة الاستدلال ممّن هو أهلٌ لذلك، أمّا حملُ السلاح فلا أثرَ له في صحّة الفتوى، واعتبار العلم .

المصدر: كتاب "شُبهات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأنصاره والرَّد عليها" الشبهة الأولى، د. عماد الدين خيتي

1 - ينظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، في دورته السابعة عشرة بعمان عام 1427هـ-2006م، وللتوسع يمكن الرجوع لكتب أهل العلم التي تناولت أحكام الفتوى والمفتي، ومنها: الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، وأدب المفتي والمستفتي، للنووي، وصفة الفتوى، لابن حمدان، وإعلام الموقعين، لابن القيم.
2 - إعلام الموقعين (1/96).
3 - تفسير القرآن العظيم "تفسير ابن كثير" (2/24).
4 - مفتاح دار السعادة (1/48).
5 - أخرجه أبو داود (5/485، برقم 3641)، والترمذي (5/48، برقم 2682)، وابن ماجه (1/151، برقم 223).
6 - أخرجه الترمذي (5/50، برقم 2685).
7 - أخرجه البخاري (4/15، برقم 2786)، ومسلم (3/1503، برقم 1888).
8 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري (14/83).
9 - إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (5/34).
10 - مفتاح دار السعادة (1/70).
11 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل "تفسير البيضاوي" (2/91).
12 - أخرجه البخاري (6/8، برقم4423)، ومسلم (3/1518، برقم 1911).
13 - الجامع لأحكام القرآن "تفسير القرطبي" (5/342). وحديث أبي كبشة أخرجه الترمذي (4/563، برقم 2325) بلفظِ : (إنّما الدنيا لأربعةِ نفرٍ: عبدٍ رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربَّه، ويصِل فيه رحِمَه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو صادقُ النّيةِ؛ يقولُ: لو أنّ لي مالًا لعملتُ بعمل فلانٍ، فهو بنيته فأجرهما سواءٌ، وعبدٍ رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا، فهو يخبِط في ماله بغير علمٍ، لا يتقي فيه ربَّه، ولا يصل فيه رحمَه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالًا، ولا علمًا فهو يقول: لو أنّ لي مالًا لعملتُ فيه بعمل فلانٍ، فهو بنيته، فوزرُهما سواءٌ).
14 - إحكام الأحكام (1/163).
15 - أخرجه البزّار في مسنده (16/247، برقم 9423)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (10/17، برقم 3884)، والطبراني في مسند الشاميين (1/344 برقم599)،  والبيهقي في السنن الكبرى (10/353، برقم 20911) عن عددٍ من الصحابة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلمَ مِن كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين)، وفي ثبوته خلافٌ.
16 - لعلّ مِن أخطر ما يعمل عليه الغلاةُ خاصةً، وأهلُ الأهواء والشهوات عمومًا إسقاط مكانة العلماء وتشويهها، تارة بالتهوين من مكانتهم، وتارة بزعم عدم فهمهم أو علمهم بقضايا الواقع والجهاد والحكم والسياسة، وتارة بادّعاء التجرّد للحقّ واتباعه، وتارة بتخوينهم والطّعن فيهم بتهم إعانة الطّواغيت، أو موالاتهم، أو الخضوع لهم، أو وَسْمهم بأنهم علماء السلاطين، أو سدنة الشرك، وغير ذلك.. مع تنصيب رؤوسٍ جهّال يقررون لهم المسائل الكبار، ويفتونهم في الدماء والأعراض.. فإذا تزعزعت ثقةُ الشّباب بأهلِ العلم سقط هذا الحصنُ المنيعُ، ولم يبقَ للشّباب حصانةٌ أمامَ أيِّ فكرٍ أو انحرافٍ يُعرض عليهم؛ لعدم وجود مَن يرجعون إليه في هذه المدلهمات والخطوب.
17 - أخرجه البخاري (1/31، برقم 100)، ومسلم (4/2058، برقم 2673).