هل يجوز الاعتداء على النصارى من أهل البلاد الإسلامية
السؤال: ما حكمُ النّصارى في بلاد المسلمين وخاصّةً بلاد الشّام؟ هل دماؤهم وأموالهم معصومةٌ؟ وما حكم تهجيرِهم خارجَ البلاد؟ وكيف تكون معاملتُهم؟
- الجواب: الحمدُ للهِ، والصّلاةُ والسّلامُ على رسولِ اللهِ، أما بعدُ:
فإنّ الأصلَ في أهل الكتاب مِن سكّان البلادِ الإسلاميّةِ عصمةُ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فلا يجوز الاعتداءُ عليهم في شيءٍ مِن ذلك، ولا تهجيرُهم أو إيذاؤهم، ويجب أنْ تؤدّى لهم حقوقُهم التي كفلها الإسلامُ، ما لم يعتدوا على المسلمين، أو يُعينوا عليهم أعداءَهم، وتفصيلُ ذلك فيما يلي:
- أولاً:
غيرُ المحاربين مِن الكفّارِ عمومًا ثلاثةُ أقسامٍ: (أهلُ هدنةٍ، وأهلُ أمانٍ، وأهلُ ذِمّة).
-
فأهلُ الهدنة: هم الكفّارُ الذين يعيشون في بلادهم، واتّفق المسلمون معهم على تركِ القتال مطلقاً أو لفترة محدّدة.
-
وأهلُ الأمان (أو المستأمَنون): هم الكفّار الذين يؤذَن لهم بدخول بلاد المسلمين والإقامة فيها لمدّة محدّدة، كالسُّفراء والتُّجّار والسُّيّاح والزُّوّار ونحوهم.
-
وأهلُ الذِّمَّة: هم الكفّارُ مِن أهل الدّيار الإسلاميّة، وقام بينهم وبين المسلمين عقدٌ يستوجب عصمةَ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ووجوبَ حمايتهم، مقابلَ خضوعِهم لسُلطان الدّولة، ودفعِ الجزية. ومعنى (الذِّمّة): العَهدُ والأمانُ والـحـُرمة.
وإنَّما أُطلق عليهم (أهل الذّمة) إشارةً إلى الواجب تجاهَهم، وأنهم في عهد المسلمين وحمايتهم، فليس في هذه التّسميةِ ما يتضمّن تنقُّصاً أو اضطهاداً لهم، كما يحاول أعداءُ الإسلام بثَّه وإشاعتَه. وقد كان المسلمون في مختلف العصور يدافعون عن أهلِ الذّمّة كما يدافعون عن المسلمين، ويستنقذون أسراهم وأسرى المسلمين، ويفادونهم معاً.
قال ابن قدامة في "الكافي": "وعلى الإمام حفظُ أهلِ الذّمّة، ومنعُ مَن يقصدهم بأذىً مِن المسلمين والكفّار، واستنقاذُ مَن أُسر منهم بعد استنقاد أسارى المسلمين".
- ثانياً:
النّصارى الموجودون اليوم في بلاد المسلمين هم مِن "أهل الذمة"، وعقدُ ذمّتهم قائمٌ مستمرّ، وهم آمنون به على دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، لما يلي:
1. أنَّ المسلمين الأوائل قد أبرموا "عقدَ الذّمّة" مع آبائهم وأجدادهم، وعقدُ الذّمّة عند عامة العلماء: عقدٌ مؤبّد، يكون لـمَن عُقد له ولذرّيته مِن بعده إلى الأبد، وهو أمانٌ يقينيٌ ثابتٌ لا يُنتقل عنه إلا بناقضٍ يقينيٍ ثابت، وهو ما لم يوجَد، فيَبقون على حكمِهم؛ عملاً بقاعدة (الأصل بقاء ما كان على ما كان).
قال ابنُ القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع": "واتّفقوا أنّ أولادَ أهلِ الذِّمّة ومَن تناسل منهم ، فإنَّ الحكمَ الذي عقده آباؤهم وإن بعدوا: جارٍ على هؤلاء، لا يَحتاج إلى تجديده مَن حدث منهم".
وقال ابنُ القيم في "أحكام أهل الذِّمّة": "العقدُ الأوّلُ يتناول البالغين، ومَن سيبلغ مِن أولادهم أبداً، وعلى هذا استمرت سنّةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وسنّةُ خلفائه كلِّهم في جميع الأعصار حتى يومنا هذا..".
وكذا وصف الماوردي في "الأحكام السّلطانية" عقدَ الذّمّة بأنّه: "لازم لجميعِهم ولأعقابهم قرناً بعد قرنٍ". وقال ابنُ قدامة في "المغني": "عقد الذّمّة مؤبّدٌ".
2. أنَّ عقدَ الذِّمّة عقدٌ لازمٌ لا يجوز فسخُه وإلغاؤه، ولا يملك المسلمون نقضَه، وليس لهم أنْ ينبذوا إليهم ذمَّتَهم، بل لا يقع النَّقضُ إلا مِن أهل الذِّمّة أنفسِهم. قال الكاساني في "بدائع الصنائع": "وأمّا صفةُ العقدِ فهو أنّه لازمٌ في حقِّنا حتى لا يملك المسلمون نقضَه بحالٍ مِن الأحوال".
وقال ابنُ قدامة في "المغني": "وإنْ لم يَنقضوا، لكن خاف النّقضَ منهم، لم يجزْ أنْ ينبذ إليهم عهدَهم؛ لأنَّ عقدَ الذّمّة لِـحَقِّهم، بدليلِ أنَّ الإمامَ تلزمه إجابتُهم إليه، بخلاف عقدِ الأمانِ والهدنة؛ فإنّه لمصلحة المسلمين، ولأنَّ عقدَ الذِّمّة آكدُ؛ لأنّه مؤبّدٌ".
3. أنَّ الكفّارَ المقيمين في بلاد الإسلام لا يكونون إلا (ذمّيين أو مستأمنين)، وبما أنَّه يتعذّر أن توجد فيهم حقيقةُ المستأمنين؛ لأنهم مقيمون في دار الإسلام على الدّوام منذ أزمنةٍ بعيدةٍ، وإقامتُهم ليست لأمرٍ عارضٍ: تعيّن أنْ يكونوا أهلَ ذمّة.
- ثالثاً:
اعتبارُ النّصارى في البلاد الإسلامية محاربين، والتّعاملُ معهم بناءً على ذلك باستحلال دمائهم وأموالهم: قولٌ باطلٌ ومنكرٌ لا يجوز القولُ به؛ لما يلي:
1. أنّهم مِن أهلِ الدّيار الإسلاميةِ على مرّ القرون، وأهلُ ديارِ الإسلام لا يكونون حربيّين البتة.
2. ثبوتُ عهد الذِّمة لهم منذ عهودٍ طويلة، وهو الأصل فيهم، والقولُ بنقض هذا العهد يفتقر إلى الدّليل والإثبات.
3. ثبوتُ الأمانِ لهم بإقامتهم بين أظهر المسلمين منذُ أزمنةٍ بعيدة، وتعايشِهم معهم، وتعاملِهم بشتّى أنواع المعاملات، وقد أمِنَ كلُّ طرفٍ الآخر، وعلى فرض عدم انطباق حكمِ الذّمّة عليهم فلا أقلّ مِن ثبوت حُكم الأمان أو شبهته.
بل إنّ جمهورَ الفقهاء يرون أنّ المستأمنَ إن طالت إقامتُه في بلاد المسلمين صار ذمّياً، فكيف بمَن هم مستوطنون في هذا البلد مِن أزمنة بعيدة!. ففي "الموسوعة الفقهية" : "وجمهورُ الفقهاء على أنّ مدّةَ الإقامة في دار الإسلام للمستأمن لا تبلغ سنةً، فإذا أقام فيها سنةً كاملةً أو أكثر تُفرض عليه الجزيةُ، ويصير بعدها ذمّياً، فطولُ إقامةِ غير المسلمين قرينةٌ على رضاهم بالإقامة الدّائمة، وقَبولهم شروطَ أهلِ الذِّمّة". وقد ذكر عددٌ مِن أهل العلم أنّ المستأمنَ إذا أتى بما يدلُّ على الإقامة الدّائمة مِن زواجٍ من أهل البلاد، أو التزم بأداء الحقوق الواجبة مِن خَراج ونحو ذلك، فقد تحوّل أمانُه إلى ذمّة.
4. أنّ القولَ بأنّهم حربيّون لم يقل به أحدٌ مِن علماء الأمّة المعتبرين، مع أنّ حالهم المعاصر مستمرّ لم يتغيّر منذ زمنٍ طويلٍ، وإنّما هو قولٌ أحدثه بعضُ أهل الغلو الذين لم يتخرّجوا على أهلِ العلم، ولم يأخذوا عنهم.
بل كان العلماءُ والدّعاة يحذّرون مِن إيذاء غير المسلمين أثناء الحروب والفوضى، ومِن الأمثلة على ذلك ما وقع مِن الشّيخ الفقيه عبد القادر القصّاب (مِن دير عطية، ت: 1360هـ-1941م)، عندما قامت الثّورة السورية، وأخذ بعضُ الجهلة يعتدون على النّصارى، ويؤذونهم، ندب الشيخُ نفسَهُ للدّفاع عنهم، وكان يطوف على بيوتهم، ويرسل الشّباب لحراستهم في الليل، كما في تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر.
5. ما قيل مِن نقض ذمّتِهم لامتناعهم عن أداء الجزية: غيرُ صحيح؛ فإنَّ الامتناعَ لا يكون إلا بعد الطّلب، وعدمُ وجودِ حكّامٍ يقيمون أحكامَ أهل الذّمّة ويطالبون بها -أو تقصيرهم بذلك-لا يزيل عنهم تلك الصّفة، ولا يرفع عنهم أحكامَها.
فأحكامُ الجزية والمطالبة بها تفتقر إلى حكم الإمام ونظره وما يراه مِن المصلحة، قال ابنُ قدامة في "المغني": "ولا يصحُّ عقد الذمَّة والهدنة إلا مِن الإمام أو نائبه، وبهذا قال الشّافعي، ولا نعلم فيه خلافًا؛ لأنّ ذلك يتعلَّق بنظر الإمام وما يراه مِن المصلحة، ولأنّ عقدَ الذمَّة عقدٌ مؤبَّد، فلم يجُز أن يُفتات به على الإمام".
وحتى لو صدر منهم ما يدلُّ على عدمِ القبولِ بأحكام الجزية، أو الخضوع لسلطان الدولة المسلمة: فلا يكون امتناعًا إلا إنْ وُجد مَن يحاسب عليه، ويطالب به ابتداءً. كما أنَّ عدمَ أخذِ حكّامِ البلاد الإسلامية للجزية مِن أهل الذمّة ابتداءً ليس ممّا يَنقض عهدَ الذّمّة؛ لأنّ عقدَ الذّمّةِ عقدٌ لازمٌ للمسلمين فلا يملكون نقضَه، ولا يقع النقض إلا مِن جهة أهلِ الذّمّة. مع أنّ بعض أهل العلم لا يرى نقضَ الذِّمّة بعدم دفعِ الجزية.
6. ما ذهب إليه الغلاةُ مِن القول ببطلان عقد الذِّمّة بسبب ردَّة الحكومات في الدّول الإسلامية، وتحوّل بلاد الإسلام إلى دار كفرٍ وحربٍ: فهو مِن الغلو والتّكفير دون حقٍّ، وليس هذا موطنَ بسطِه.
فهذه العهودُ والمواثيق لا تَبطل بمجرّد ردّة الحاكم، وإلا لزم على ذلك إبطالُ كلِّ ما باشره الحاكم أو نائبه مما يُشترط فيه الإسلام، كالأنكحة، والقضاء، وغير ذلك؛ إذ لا فرق بين عهده للكفّار وبين سائر عهوده وعقوده، ويترتب على ذلك مِن الفساد ما يكفي تصوّره في ثبوتِ بطلانه.
وعلى فرض صحّة هذا التّكفير: فإنَّه لم يقع منهم نقضٌ للعهد، فيبقى لهم أمانهم الذي كانوا عليه في دمائهم وأموالهم وأعراضهم. وهذا ما عليه علماء المسلمين وفهمهم للدّين منذ قرون، فقد وقعت بلاد المسلمين تحت احتلال الكفّار في العراق، والشام، وغيرها، وتولّى حُكمَها في سنواتٍ كثيرةٍ حكّامٌ مرتدّون كالعبيديين في مصر وغيرها، ولم يحكم أهلُ العلم بنقض ذمّتِهم أو عهودِهم أو مواثيقهم لأجل ذلك.
7. لو فُرض أنَّ عقدَ الذِّمّة قد انتقض مِن جميعهم، وخرجوا عن طاعة الدّولة ورفضوا الخضوعَ لها فإنَّ هذا لا يستلزم استباحةَ دمائهم وأموالهم. قال الماوردي في "الأحكام السّلطانية": "وإذا نقض أهلُ الذِّمّة عهدَهم لم يُستبح بذلك قتلُهم، ولا غَنمُ أموالهم، ولا سبيُ ذراريهم ما لم يُقاتلوا، ووجب إخراجُهم مِن بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنَهم مِن أدنى بلاد الشِّرك..".
وقال زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب": "ويُبلغهم مأمنَهم قبلَ قتالهم إنْ كانوا بدارِنا وفاءً بالعهد، ولأنَّ العقدَ لازمٌ قبلّ ذلك ..".
- رابعاً:
يجب على أهلِ الذِّمّة بموجب هذا العقد:
1. الالتزام والخضوع لنظام الدّولة المسلمة في الأحكام العامة. أمّا ما كان مِن شؤونهم الدّينية، وأحكامهم الشّخصيَّة، كالزّواج والطّلاق، ومأكولاتهم ومشروباتهم، ونحو ذلك، فلا يُتعرّضُ لهم فيها، مع التزامهم بعدم إظهار شعائر دينِهم، أو الدّعوة إليه، أو إظهار ما يعتقدون إباحتَه مِن شرب الخمور أو أكل الخنزير، ونحو ذلك. وهذا الالتزام هو معنى (الصَّغار) الوارد في قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: 29].
قال الشافعي في "الأم": "فكان الصَّغارُ -والله تعالى أعلم- أنْ يَجرى عليهم حكمُ الاسلام". وقال ابن القيم في "أحكام أهل الذمة": "والصّوابُ في الآية أنّ الصّغارَ هو التزامُهم لجريان أحكام الملّةِ عليهم، وإعطاءِ الجزيةِ؛ فإنّ التزامَ ذلك هو الصَّغارُ".
2. دفع الجزية: وهي مقدارٌ مِن المال يدفعه أهلُ الذّمّة كلَّ عامٍ بموجب عقد الذِّمّة، ويكون في مقابل حمايتهم ، وتأدية حقوقهم. قال ابنُ قدامة في "المغني": "ولا يجوز عقدُ الذّمّة المؤبّدة إلا بشرطين؛ أحدهما: أن يلتزموا إعطاءَ الجزيةِ في كلِّ حولٍ. والثاني: التزامُ أحكامِ الإسلام، وهو قَبولُ ما يُحكم به عليهم مِن أداء حقٍّ، أو تركِ محرّم".
وما يُقال مِن أنّ الجزيةَ تؤخذ على سبيل الإهانة أو الإذلال بصورٍ مختلفة، فقد ذكره بعضُ أهل العلم، لكنه غير صحيح. قال النّووي في "روضة الطالبين": "هذه الهيئةُ باطلةٌ مردودةٌ على مَن اخترعها، ولم يُنقل أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد مِن الخلفاء الراشدين فعل شيئاً منها مع أخذهم الجزية". وقال : "تؤخذ الجزيةُ برفقٍ كأخذ الدّيون".
ويجوزُ أخذُ الجزيةَ باسمِ الزكاةِ أو غيرِه مِن الأسماء المعاصرة، كالضّريبة ونحوها، وقد صالح عمرُ رضي الله عنه نصارى بني تغلبَ على أنْ يضاعِفَ عليهم الصّدقةَ [أي الزكاة]، ولا يأخذ منهم الجزية.
قال النّووي في "روضة الطّالبين" : "فلو طلب قومٌ مِن أهل الكتاب أنْ يؤدّوا الجزيةَ باسم الصّدقة، ولا يؤدّوها باسم الجزيةِ، فللإمامِ إجابتُهم إذا رأى ذلك". وذكر ذلك أبو عبيد القاسم بن سلّام في كتاب "الأموال"، وقال: "عَلم أنّه لا ضررَ على المسلمين مِن إسقاط ذلك الاسم عنهم، مع استبقاء ما يجب عليهم مِن الجزية، فأسقطها عنهم، واستوفاها منهم باسم الصّدقة حين ضاعفها عليهم ... وكان مسدَّداً".
وقال ابنُ قدامة في "المغني": "فإنْ وُجد هذا في غيرهم، فامتنعوا مِن أداء الجزية، وخيف الضّررُ بترك مصالحتِهم، فرأى الإمامُ مصالحتَهم على أداء الجزية باسم الصّدقةِ، جاز ذلك، إذا كان المأخوذُ منهم بقدر ما يجب عليهم مِن الجزيةِ أو زيادةً..".
وليس لأفراد المسلمين وقادةِ الجماعات الدّعوية أو الجهادية أو الهيئات الشّرعية أو القضائية مطالبةُ غير المسلمين بأداء الجزية؛ لأنّ ذلك مِن أحكام الدّولة الممكّنة، وواجبات الإمام الأعظم.
ولأنّ أهلَ الذّمّة يستحقّون بتأديتها جملةً مِن الحقوق التي لا قدرةَ لغير الدّولة على الوفاءِ بها، فأفرادُ المسلمين أو جماعاتهم غيرُ قادرين على القيام بحقوق مَن تحتَهم فضلاً عن القيام بحقوق غيرهم.
- خامسًا:
يجب على المسلمين أن يُعامِلوا أهلَ الذِّمّة بالعدل، وحفظ الحقوق، والإحسان إليهم، ومِن حقوقهم:
-
حقُّ الانتماء للدّولة التي يعيشون فيها، وحمل جنسيتها.
-
الوفاءُ لهم بعهدهم، وعدمُ نقضه إلا إذا وُجد منهم ما ينقضه. عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "أُوصي الخليفةَ مِن بعدي بالمهاجرين الأوّلين خيراً..، وأوصيه بذمّة الله وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم : أنْ يوفى لهم بعهدهم، وأنْ يُقاتلَ مِن ورائهم، وأنْ لا يُكلّفوا فوقَ طاقتِهم"رواه البخاري.
-
الحفاظُ على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وحمايتهم مِن الاعتداء عليهم. قال صلى الله عليه وسلم: (مَن قتل معاهداً لم يرح رائحةَ الجنّة، وإنَّ ريحها توجد مِن مسيرة أربعين عاماً)رواه البخاري. وقال: (ألا مَن ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلّفه فوقَ طاقتِه، أو أخذ منه شيئاً بغير طيبِ نفسٍ، فأنا حجيجُه يومَ القيامةِ)رواه أبو داود.
-
تمكينُهم مِن إقامة شعائر دينهم، وعدم التعرّض لكنائسهم، وصلبانهم، وخمورهم ، إذا لم يُظهروها، وعدم إكراههم على الدّخول في الإسلام.
-
حقّهم في الانتفاع مِن مرافق الدّولة العامّة، والعمل والتّكسّب والتّعليم والتنقّل، وغيرها.
-
حقّهم في رعاية الدّولة الإسلامية لهم حين الحاجة إلى ذلك. وقد أخرج أبو عبيد في كتاب "الأموال": "أنّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه وجد شيخًا مِن اليهود يسأل النّاس، فقال: ما أنصفناك، إنْ كنا أخذنا مِنك الجزيةَ في شبيبتك، ثمّ ضيّعناك في كبرك! ، ثمّ أجرى عليه مِن بيت المال ما يُصلحه".
- سابعًا:
المتّفقُ عليه بين الفقهاء فيما ينتقض به عقد الذِّمّة: امتناعُ أهل الكتاب عن الخضوع لسلطان الدّولة المسلمة، والخروجُ عليها ، ومحاربةُ المسلمين ، أو إعانةُ مَن يحاربهم. وذكر بعضُ العلماء أموراً أخرى ينتقض بها عقدُ الذِّمّة ، لكنّها محلُّ خلافٍ بين العلماء، وهي مِن مسائل الاجتهاد التي ليس فيها نصٌّ شرعيٌّ يجب المصيرُ إليه؛ فالأقربُ أنْ يُترك النظرُ فيها لاجتهاد الحاكم في حينه.
قال القرافي : "والقاعدةُ الشّرعيةُ المشهورةُ في أبواب العقود الشّرعية أنها لا تُبطل عقداً مِن العقود إلا بما ينافي مقصودَ ذلك العقد دون ما لا ينافي مقصودَه، وإن كان منهياً عن مقارنته معه فكذلك هنا ينبغي أن لا يبطل عقدُ الجزيةِ إلا بما تقدّم ...وممّا اتّفقوا على أنّه موجبٌ لمنافاة عقدِ الذّمّة: الخروجُ على السّلطان، ونبذُ العهدِ، والقتلُ والقتالُ بمفردهم أو مع الأعداء ونحو ذلك..". انتهى من الفروق بتصرّفٍ يسير.
وأمّا ما يصدر منهم مِن مخالفاتٍ وجناياتٍ وجرائمَ أخرى ، فيُحاسبون عليها كما يُحاسَب المسلم. قال الإمام الشّافعي في "الأمّ": "وإذا أُخذت الجزيةُ مِن قوم فقطع قومٌ منهم الطّريقَ، أو قاتلوا رجلاً مسلماً فضربوه، أو ظلموا مسلماً، أو معاهداً، أو زنى منهم زانٍ، أو أظهر فساداً في مسلمٍ، أو معاهدٍ حُدَّ فيما فيه الحدُّ، وعوقب عقوبةً منكِّلةً فيما فيه العقوبةُ، ولم يُقتل إلا بأنْ يجبَ عليه القتلُ، ولم يكن هذا نقضاً للعهد يُحِلُّ دمَه، ولا يكون النقضُ للعهد إلا بمنع الجزيةِ، أو الحكمِ بعد الإقرارِ والامتناع بذلك".
وقال ابنُ قدامة في "المغني": "إنْ فعل ما فيه حدٌّ أُقيم عليه حدُّه أو قصاصُه، وإن لم يوجب حدّاً عُزِّر، ويُفعل به ما ينكفُّ به أمثالُه عن فعلِه".
ومَن نقض العقدَ مِن أهل الذِّمّة فإنّ حكمَ النّقضِ يختصُّ به، ولا يتعدّاه لغيره إلا إن وافقوه عليه.
قال النّووي في "روضة الطالبين": "فنقضُه مِن البعض ليس نقضاً مِن الباقين بحالٍ". وقال ابنُ قدامة في المغني: "وإن نقض بعضُهم دون بعضٍ اختَصَّ حكمُ النّقضِ بالنّاقض دون غيره".
- وختاماً:
فإنّ غير المسلمين ما داموا قد سَاكَنُوا المسلمين وجاوروهم، ولم يظهر منهم اعتداءٌ أو إيذاء، ولم يساندوا أعداءَ المسلمين، فالواجبُ في حقِّ المسلمين، وجميع الفصائل أنْ يُحسنوا جوارَهم، ويحفظوا عليهم أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، وأن يُبرزوا محاسنَ الإسلام؛ فثبوتُ العصمةِ لهم أمرٌ مقطوعٌ به؛ لأنّه لا يخلو حالُهم مِن ذمّة سابقة، أو عهدٍ قائمٍ، أو شبهةِ أمان، كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة: 8].
ونسأل اللهَ تعالى أنْ ينصر المجاهدين في سبيله في بلاد الشّام وغيرها، وأنْ يرزقَهم تمثُّلَ المنهج النّبوي في التّعامل مع مختلف طبقات النّاس، وأنْ يوفّقهم لتطبيق دينِه، وإظهارِ محاسن شريعتِه.
والله أعلم.
الأربعاء 9 ديسمبر 2015 م
إضافة تعليق جديد