فتوى: كيف نتعامل مع تنظيم (الدّولة) في المناطق التي يسيطر عليها!
السّؤال: مشايخنا الأفاضل: نحنُ نعيشُ في المناطق التي يسيطر عليها تنظيمُ (الدّولة)، ونريد الاستفسارَ عن حكم التّعامل معهم في مختلف الأمور، مثل: الصّلاة وراءهم، والدّعاء لهم، والتّأمين على دعائهم، والصّلاة على موتاهم، وحضور دوراتهم الشّرعية، والقتال معهم، ودفع الزكاة إليهم، وتزويجهم أو الزّواج منهم، والتّخاصم إلى محاكمهم، وغير ذلك مِن المعاملات.
أفتونا مأجورين، وجزاكم الله خيرًا..
الجواب: الحمدُ لله، والصّلاة والسّلام على رسولِ الله، وبعدُ:
فالأصلُ في التّعامل مع تنظيم (الدّولة) المدافعةُ والمجانبةُ والحذرُ؛ لجمعِه بين الغلوّ والإجرام، ومَن ابتُلي بالعيش تحت حكمهم فعليه أنْ يكون على بيِّنةٍ مِن أمره في أحكام التّعامل معهم، وذلك بحسب وُسعِه واستطاعتِه دون أن يعرّضَ نفسَه لما لا يطيق مِن بطشهم، وبيانُ ذلك فيما يلي:
- أولاً:
ثبت بالأدلّة الظّاهرة الواضحة أنّ تنظيمَ (الدّولة) جماعةٌ منحرفةٌ، جمعت بين الغلوِّ والإجرام، فخوّنتْ مَن لم يوافقها، وحكمتْ بكُفرهم ورِدَّتهم، وسفكت دماءَهم، وطعنتْ في أعراضهم، واستباحت أموالَهم، حتى بات خطرُها على المسلمين عمومًا والمجاهدين والدّعاةِ خصوصًا لا يقلُّ عن خطر النّظام المجرم، وحلفائه المعتدين.
وقد صدرت عدّةُ فتاوى توضّح ضلالَهم وخطرَهم، ومِن ذلك: فتوى (هل تنظيمُ الدّولة الإسلامية مِن الخوارج؟)، وفتوى (هل القتال القائم بين الكتائب المجاهدة وتنظيم الدّولة قتالُ فتنة؟).
فمَن خشي على نفسِه أو دينِه منهم، فعليه السّعيُ في الخروج مِن مناطقهم، ومَن لم يمكنه الخروجُ، أو رجا أنْ يكون في بقائه منفعةٌ للنّاس، فلا حرجَ في بقائه، مع الحيطة والحذر.
- ثانياً:
الواجبُ تجاه أفراد التّنظيم تركُ مجالستهم، والبُعد عن مخالطتِهم ما أمكن؛ لشدّة ضلالهم، وهدمِهم لأصول الدّين، ومقاصدِه الكلية، مع حرصِهم البالغ على نشر باطلِهم، وترويجِ شبهاتهم، وإلزام النّاسِ بها، ولا يتورّعون في سبيل ذلك عن التّلبيس والتّدليس والكذب، فيُخشى على مَن جالسهم أن يُفسدوا عليه دينَه ودنياه.
قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: "لا تُجالسْ أهلَ الأهواءِ؛ فإنّ مجالستَهم مَمْرَضةٌ للقلوبِ"أخرجه الآجرّي في الشّريعة، وابن بطّة في الإبانة.
وقال أبو قِلابة:"لا تُجالسوا أهلَ الأهواءِ، ولا تجادلوهم؛ فإنّي لا آمنُ أنْ يغمسوكم في الضّلالةِ، أو يَلْبِسوا عليكم في الدّينِ بعضَ ما لُبِّس عليهم "أخرجه الآجري في الشّريعة، وابن بطة في الإبانة.
وقد أجاز أهلُ العلمِ الجلوسَ مع أهل البدع للدّعوة والمناظرة لـمَن كان أهلًا لذلك، لكن ينبغي لـمَن أراد دعوتَهم أنْ يكون حذِرًا حكيمًا، وأنْ يُدرك خطرَ ما هو مُقدِمٌ عليه؛ فإنّهم لا يرقبون في مخالفهم إلًّا ولا ذمّةً، ولا يحفظون عهدًا ولا وعدًا.
- ثالثاً:
لا يجوز حضورُ الدّوراتِ "الشّرعية" التي يقيمها تنظيمُ (الدّولة)، ولا الدّروسِ التي يعقدونها، ولا الانتسابُ للمعاهد والمدارس الشّرعية التي يُشرفون عليها؛ لما في ذلك مِن تعليمٍ للبدعة، وتحريفٍ للدّين، وتزيينٍ للباطل، وإسقاطٍ لحرمة دماء المسلمين وأموالهم. كما أنَّ العلمَ الشرعيَّ دينٌ، فلا يؤخذ إلا ممّن استقام منهجُه، وصحّت طريقته.
عن أبي أميةَ الجُمَحي رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ مِن أشراط السّاعةِ أنْ يُلتمس العلمُ عند الأصاغر)أخرجه ابنُ المبارك في الزّهد ، والطّبراني في المعجم الكبير. وقال ابنُ المبارك -كما في "شرح أصول اعتقاد أهل السّنة"- : "الأصاغرُ مِن أهل البدع".
وقال الإمامُ مالك رحمه الله:"لا يؤخذ العلمُ مِن أربعةٍ، ويؤخذ ممّن سوى ذلك؛ لا يؤخذ مِن رجلٍ صاحبِ هوىً يدعو النّاسَ إلى هواه.."أخرجه الخطيبُ في "الكفاية.
فمَن أُكره على حضور دروسهم، أو خشي على نفسِه منهم إن هو تغيَّب عنها : فيجوز له حضورُها، ولْيحذرْ مما يُقال فيها، ويستفسر عما يُشكل عليه، وليسأل الله تعالى أنْ يعصمَ قلبَه مِن الأهواء والفتن.
- رابعاً:
ذهب جمهورُ أهلِ العلمِ إلى صحَّة الصّلاةِ خلفَ الفاسق والمبتدع -مع اتفاقهم على أنّه لا ينبغي تقديمُ هؤلاء لإمامة النّاس- فمَن صلّى خلف أفرادِ تنظيم (الدّولة) صحّت صلاتُه، ولا إعادةَ عليه.
روى البخاريُّ في صحيحه عن عُبيد الله بن عَدي بن خِيار: أنّه دخل على عثمانَ بنِ عفان رضي الله عنه وهو محصورٌ -أي محبوسٌ في داره في فتنة مقتلِه- فقال: "إنّك إمامُ عامّةٍ، ونزل بك ما نرى، ويصلّي لنا إمامُ فتنةٍ، ونتحرّجُ؟ فقال: الصّلاةُ أحسنُ ما يعمل النّاسُ، فإذا أحسن النّاسُ فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنبْ إساءَتهم". وقد بوّب البخاريُّ على هذا الأثر بقوله: (بابُ إمامةِ المفتون والمبتدع، وقال الحسن: "صلِّ، وعليه بدعتُه").
وقد كان ابنُ عمر رضي الله عنهما يصلّي خلفَ بعضِ أهل البدع مِن الخوارج وغيرهم، فلمّا عوتب في ذلك قال: "مَن قال: حيّ على الصّلاة أجبتُه، ومَن قال: حيّ على الفلاحِ أجبته، ومّن قال: حيّ على قتلِ أخيك المسلم وأخذِ مالِه قلتُ: لا"خرجه أبو نُعيم في "حلية الأولياء"، والبيهقي في "السنن الكبير".
ولا يجوز الدّعاءُ لهم بالنّصر على المجاهدين، أو التّمكين في الأرض؛ لمخالفته مقصودَ الشّارع في قتالهم واستئصالِ شرّهم، ولا مانعَ مِن التّأمين على دعائهم إذا كان عامًّا للمسلمين، ولا إثمَ فيه ولا اعتداء، ويُسكت عن غيره مِن الدّعاء بالباطل والعدوان.
أما الصّلاةُ على جنائزهم : فهي جائزةٌ ؛ لأنّ الصّلاةَ على الميت مشروعةٌ طالما حكمنا بإسلامه، ولولا خوفُ الأذى والبطش لاستُحبّ لأهل العلم ووجهاء البلد أنْ يتركوا الصّلاةَ عليهم عقوبةً ونكالًا لهم، وزجرًا عن أفعالهم، وقد سبق تفصيلُ ذلك في فتوى (حكم تكفير تنظيم (الدّولة) ولعنهم وحُكم أسراهم وأموالهم).
- خامساً:
أما تولّي الأعمالِ أو المناصب لهم: فالأصلُ فيه المنعُ؛ لما فيه مِن إعانتهم على باطلِهم، وتقويةِ شوكتِهم، وتكثير سوادهم، إلا لمن علم مِن نفسه أنّه يعين النّاسَ، ويؤدّي لهم حقوقَهم، ويخفّف عنهم الظُّلمَ حسب استطاعتِه فيجوزُ له ذلك؛ لأنَّ تولّي مثلِ ذلك عند الحاكم الكافر جائزٌ، فيجوزُ هنا مِن باب أولى.
قال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى : "فمَن ولي ولايةً يقصد بها طاعةَ الله، وإقامةَ ما يمكنه مِن دينه، ومصالحِ المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه مِن الواجبات، واجتناب ما يمكنه مِن المحرّمات؛ لم يؤاخَذ بما يعجِزُ عنه؛ فإنّ توليةَ الأبرار خيرٌ للأمّة مِن توليةِ الفجّار".
- سادساً:
لا يجوز القتالُ إلى جانب تنظيم (الدّولة)؛ لأنَّ غالبَ قتالهم إنّما هو ضّدّ المسلمين والمجاهدين، فهم كما وصفهم رسولُ صلى الله عليه وسلم: (يَقتلون أهلَ الإسلام، ويدَعون أهلَ الأوثان)متّفق عليه، وهم إنّما يقاتلون لإقامة خلافتهم المزعومة على الأرض التي يتمكنون منها.
ويُستثنى مِن ذلك القتالُ معهم لدفع ضررِ الصّائلين المعتدين على النّفس أو العِرض، ويَتجنّب مشاركتَهم فيما يخالفُون فيه الشّرعَ مِن أعمال القتال، ولا بدَّ مع ذلك مِن أخذ الحيطة والحذر مِن غدرهم وكذبهم ونقض للعهود مع المجاهدين وفي ساحات القتال، كما هو مشاهدٌ معروفٌ في السّاحات التي خرج فيها التّنظيم، لا سيما في العراق والشام.
سابعاً:
لا يجوز دفعُ الزكّاة لتنظيم (الدّولة)؛ لما فيه مِن تقوية شوكتهم، وإعانتهم على البدعة والمعصيةِ والعدوان وقتالِ المسلمين، بل يجب التّحايلُ والتّهرّبُ مِن دفعها لهم قدرَ الإمكان، والاجتهادُ في إخراج الزكّاة إلى مستحقّيها مِن غير طريقهم.
فمَن أُجبر على دفعِها لهم، أو خاف الضّررَ بالامتناع أجزأت عنهم على الرّاجح الأقوى مِن أقوال أهل العلم. قال ابنُ قدامة في "المغني" :"إذا أخذ الخوارجُ والبغاةُ الزّكاةَ :أجزأتْ عن صاحبِها".
ولا يجوز قَبولُ الزكّاةِ أو الأعطيات مِن التّنظيم؛ لأنّهم لا يتورّعون عن استباحة الأموال العامة والخاصّة، ومصادرتها دون وجه حقٍّ، إلا إنْ أخذها بنية الحفاظ عليها ورعايتِها لأصحابها إنْ كان يعرفهم، أو صرفَها للفقراء والمحتاجين وإعانة المجاهدين إنْ كانت مجهولةَ المصدر، ويجوز أخذُ ما عُلم حِلّه وسلامتُه مِن النّهب والغصب، أو كان أجرةً على عملٍ أو وظيفةٍ.
- ثامناً:
لا يجوز تزويجُ أفرادِ تنظيم (الدّولة) أو الزّواج منهم؛ لعدم الكفاءة في الدّين، فهم ليسوا أكفاءً لأهل السّنّة. وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم مَن ترضون خُلقَه ودِينَه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ)رواه التّرمذي وابن ماجه، وأفراد تنظيم الدّولة غلاةٌ جفاةٌ، غيرُ مرضيّي الدّين، ولا المعتقد، ففي تزويجِهم إضرارٌ بالزّوجة - والأولاد مستقبلاً- وربّما أفسد عليهم دينَهم.
كذلك لا ينبغي نكاحُ مَن كانت على مذهبهم مِن النساء؛ لما للزّوجة مِن تأثيرٍ على زوجها لا سيّما إذا تعلّق بها، ولم يكن مِن أهلِ العلم والبصيرة، وربما استقوتْ عليه بالسُّلطة القائمة إذا حصل خلافٌ بينهما، ولا يخفى عظيمُ تأثير المرأةِ على أبنائها. فإن وقع الزواجُ منهم على الرغم من ذلك: فالعقدُ صحيح.
ومِن مفاسد الزّواج مِن أفراد التّنظيم أنّه تكثر فيهم الألقابُ، ولا تُعرف أسماؤهم ولا أنسابهم، وقد يؤدّي هذا إلى ضياع الحقوق مِن إرثٍ ونحوه، أو جهلِ المحارم، فيكون المنعُ آكد.
- تاسعاً:
يجبُ على مَن كان تحت حكمِهم حلُّ نزاعاتهم دونَ اللّجوء إلى محاكمِهم؛ لما ثبت مِن جهلِ وظلمِ قضاتهم، وإجراء أحكامهم القضائية على مذهبِهم الفاسد. فإن لم يمكن تحصيلُ الحقوقِ، وفصلُ النّزاعات إلا بالتّرافع إليهم فيجوزُ، لأنّ النّاسَ محتاجون إلى تحصيل حقوقِهم، وإذا كان التّحاكمُ إلى محاكم غير المسلمين جائزًا إذا لم يمكن تحصيلُ الحقّ إلا به، فجوازُ التّحاكم إلى هؤلاء مِن باب أولى.
وليحذر المتقاضي إلى محاكمِهم مِن أخذِ ما يحكم به قضاتُهم ممّا ليس له فيه حقٌّ، فعن أمّ سلمة رضي الله عنها، أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّما أنا بشرٌ، وإنّه يأتيني الخصمُ، فلعلَّ بعضَكم أنْ يكون أبلغَ مِن بعضٍ، فأحسِبُ أنّه صدقَ، فأقضي له بذلك، فمَن قضيتُ له بحقِّ مُسلمٍ، فإنّما هي قطعةٌ مِن النّار، فليأخذْها أو فلْيتركْها) متفقٌ عليه.
قال النّووي في "شرح مسلم": "معناهُ: إنْ قضيتُ له بظاهرٍ يخالف الباطنَ فهو حرامٌ يؤول به إلى النّار. قوله صلى الله عليه وسلم (فليحملْها أو يذرْها) ليس معناه التخيير، بل هو التّهديدُ والوعيد".
وأمّا ما تحكم به محاكمُهم مِن فسخ النّكاح بسبب (الرّدّة)، أو التحاق أحدِ الزّوجين بـما يسمونها (الصّحَوات): فهي أحكامٌ جائرةٌ باطلةٌ، لا يترتّب عليها شيءٌ مِن الآثار، ولا يحلّ الزواجُ ممّن حكمتْ عليه محاكمُهم بذلك.
- وأخيرًا:
فما بينّاه مِن أحكامٍ فيما سبق منوطٌ بالقدرة، فقد عُرف عن هؤلاء القومِ الإجرامُ والبطشُ بمَن خالفهم، فمَن خاف أذاهم فليدارهم ما استطاع، وإن أكرهوه على شيءٍ مِن أقوالهم وأفعالهم الباطلةِ فله أنْ يأتي منها ما يدرأ عنه شرَّهم، إلى أنْ ييسر اللهُ له مخرجًا، فإنّ اللهَ يتجاوز عن المكرَه والمضطرِّ طالما كان منكِرًا بقلبه، مطمئنًّا بإيمانه، لكن لا يجوز له بحالٍ أن يعينَهم على المجاهدين، أو يدلَّ على عوراتهم، أو يدعو النّاسَ إلى ضلالاتهم.
نسألُ اللهَ أنْ يقيَنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفجّار، وشرَّ طوارقِ اللّيلِ والنّهار، وأن يصلحَ لنا دينَنا ودنيانا.
والحمد لله رب العالمين .
الأحد 6 سبتمبر 2015 م