الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادي اول 1446 هـ

شبهات وردود

شبهات تنظيم الدولة وأنصاره والرد عليها: الشبهة العشرون: عند الفصائل الأخرى تمييعٌ للدّين ورضاً بالكُفر

26 رمضان 1437 هـ


عدد الزيارات : 3287
عماد الدين خيتي

 

 


تقول الشبهة:

الكتائب الأخرى عندها تمييعٌ للدّين، ورضًا بالكفرِ، ورضوخٌ للكفّار، واستجابةٌ لطلباتهم، كما هو في "ميثاق الشّرف الثّوري" الذي وقعته كبرى الفصائل السّورية.

الإجابة عن هذه الشّبهة:

تمثّل هذه الشّبهة خلاصةَ فكر الغلوّ في التّعامل مع القضايا السّياسية بعيدًا عن علم السّياسة الشّرعية، والنّصوص الضابطة لها، وأقوال العلماء فيها، وعلى الرّغم مِن مرور وقتٍ طويلٍ على صدور هذا الميثاق، وظهور معاهداتٍ وتجمّعات أخرى، إلا أنَّ مجمل مواد هذا الميثاق تبقى محلّ اعتراض الغلاة عمومًاوعند النّظر في موقف تنظيم (الدّولة) من التحالفات التي ظهرت بين الفصائل في العراق وأفغانستان، وليبيا، واليمن،) نجد النّتيجة نفسها في التّخوين والتّكفير..

ومع أنَّ هذا الميثاق جهدٌ بشري، والاعتراض عليه أو نقده أمرٌ اجتهادي، لكن الغلاة جعلوا الاعتراض عليه أساسًا للولاء والبراء مع المخالفين، وتخوينهم والطعن فيهم، دون حجةٍ ولا برهانٍ شرعي، وهو ما يُظهر الأساس الفكري الذي بنوا عليه معتقداتهم، وغلوهم فيه.

وفيما يلي خلاصة هذه الشّبهات ومناقشتها:

  • أولًا:

قالوا: اقتصر الميثاقُ على محاربة الغلو، دون محاربة التّمييع والتّنازل: ويمكن الإجابة:

بأنَّ الأصلُ في هذه المواثيقِ الاجتماعُ على عملٍ مشترك في مسائلَ محدّدةِ لها الأهمية والأولوية، ولا تكون شاملة لجميعِ القضايا، وقد ظهر جليًا واضحًا أثرُ الغلاة على الثّورة السّورية وبخاصة تنظيم (الدّولة)، بما لم يظهر مِن الآخرين مِن المميّعين وأشباههم، فكان واجب الوقت المتعيّن محاربةُ الغلو وهذا التّنظيم، حقنًا للدّماء، وحفاظًا على الدّين، ولا يعني هذا بحالٍ مِن الأحوال رضا هذه الفصائل بالتّفريط، أو القبول به.

قال ابن القيم رحمه الله: "إنّ أفضلَ العبادة العملُ على مرضاة الرّبّ في كلِّ وقتٍ بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضلُ العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإنْ آل إلى ترك الأوراد، مِن صلاة اللّيل وصيام النّهار، بل ومِن ترك إتمام صلاة الفرد، كما في حالة الأمن..."مدارج السالكين (1/109)..

وقد أثبتت تجارِبُ الأمّةِ –وخاصة الجهادية- أنَّ حاجتَها لبيان خطر الغلاة أشدُّ مِن حاجتها لبيان خطر المميّعين المنبطحين، بل إنّ هؤلاء المميعين لم تقوَ شوكتُهم إلا بسبب غلوّ هؤلاء وإجرامهم في المجتمعاتبل إنَّ جهودَ الأمة وتراثها في محاربة تمييعِ الدين وتحريفه كثيرةٌ متنوعةٌ، وخاصة جهود ما بعد الاستعمار، عندما حوربت الشريعة ونُحيت كثيرٌ من أحكامها عن أكثرِ بلاد المسلمين، بينما بقيت جهودُ محاربة الغلو قليلةً ضعيفةً مقارنةً بهذه الجهود، وبأثرِ ما أحدثه الغلو من آثارٍ خطيرةٍ في مجتمعات المسلمين، وذلك لالتباسِ الغلو على كثيرٍ من الناس، وبعضِ أهل الفضل، بسبب إحسانِ الظن بهؤلاءِ الغلاة بهم لرفعهم شعاراتٍ ومطالباتٍ دينية، أو بسبب الإحجام عن نقدهم لاختلاطهم بالمجاهدين، وخشيةَ استغلال الأعداء لهذا النقدِ في الطعنِ في الدين الصحيح، وقد ظهرَ أثر هذا الضعفِ والتردّد جليًا في موقف العديدين من تنظيم (الدولة) عند بدايةِ ظهوره..

بالإضافة إلى إنَّ هذه الفصائل المجاهدة معروفةٌ بانضباطها الشّرعي، ولها هيئاتٌ شرعيّةٌ ومحاكم تضبط عملَها، وقد نصَّت مواثيقُها الخاصّة على الاعتدال بين الإفراط والتّفريط، فلا مجالَ للطّعن فيها، والانتقاص منها لذلك.

  • ثانيًا:

قالوا: لا يكفي ادعاءُ الرّجوع للدّين الحنيف، فلا بدّ مِن موافقة الأقوال والأفعال للشّرع.

ويمكن الإجابة: 

بأنَّ ما ذكروه مِن ضرورة مطابقة الأقوال والأفعال للشّرع لا خلافَ فيه، وما ذُكر في الميثاق هو الأقوال التي صدّقتها سيرة هذه الفصائل في تعظيم الشّرع، والالتزام بمبادئه وأحكامه مِن حيثُ الجملة، وسعيها لتحكيمه على نفسِها، وعلى غيرها فيما شجر بين مختلف الجهات، وفي جميع شؤون الحياة مع مراعاة الطّريقة الشّرعية في تطبيق وتحكيم تلك المبادئ والأحكام، ومِن الأمثلة على القضايا التي حرصت تلك الفصائل على التقيد فيها بالأحكام الشرعية طريقتها في التعاطي مع خلافاتها مع تنظيم (الدّولة) في الحرص على ردّ الخلافات إلى المحاكم الشرعية المستقلة، ثمّ التقيّد بفتاوى أهل العلم في تفاصيل التعامل مع التنظيم وأفراده.

وأيضًا فالمواثيق تؤخذ بكامل موادّها، ولا تعاد الضّوابط في كلّ مادّة، وقد نصَّ الميثاقَ في عددٍ مِن موادّه على التقيّد بالإسلام:

  • المادة الأولى: "ضوابط ومحدّدات العمل الثّوري مستمدّةٌ مِن أحكام ديننا الحنيف بعيدًا عن التَّنطع والغلوّ".

  • المادة التاسعة: "تلتزم الثّورةُ السّورية باحترام حقوق الإنسان التي يحث عليها دينُنا الحنيف".

فهذا النّقدُ طعنٌ في الفصائل المجاهدة المعروفة بالالتزام والانضباط بالشرع وفتاوى أهل العلم، دون سببٍ وجيهٍ، بل لمجرد التّشويش وتكثير الانتقادات.

  • ثالثًا:

قالوا: اقتصر الميثاقُ على نوعٍ مِن الجهاد وهو إسقاط النّظام عسكريًّا، والواجبُ أن يكون دفعُه عن الدّين وحاكميّته قبل كلّ شيء. ويمكن الإجابة: 

1. لا يشترط في صحّة وجواز هذه التّحالفات العمل على جميع القضايا التي يحتاجها المجتمع، بل يكفي أن تقوم على أهدافٍ مشروعة، والعادةُ أنها تكون في الأهمّ من الأمور والقضايا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في مشركي قريش: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا)سبق ص ().، ومعلومٌ أنَّ هذا الحلفَ لم يكن على إنشاء دولة إسلاميّة، ولا تحكيم الشّرع، بل كان على هدفٍ مرحليٍ محدّد مشروعٍ، وإن كان يُعلم أنَّه سيكون هناك أحداثٌ ومواقف أخرى قادمة.

قال ابنُ بطال رحمه الله: "فكان ممّا سألوه أنْ يُعظّم به أهلُ الحرم أن يردّ إليهم مَن خرج منهم ومِن حرمهم مسلمًا أو غيرَه، وألا يردّوا ولا يُخرجوا مِن الحرم منَ فرّ إليه مِن المسلمين، وكان هذا مِن إجلال حرمة الحرم، فلهذا عاقدهم على ذلك، مع يقينِ ما وعده اللهُ –تعالى- أنّه ستُفتح عليه مكّة ويدخلها"شرح ابن بطال (8/92)..

2. في كلام الغلاة هذا خللٌ في المقصود بتحكيم الشّريعة، وحصرُها في أمورٍ معيّنة، واتهامٌ للفصائل بعدم إقامة الدين أو التهاون فيه، وقد سبق نقاشُ المقصود بتحكيم الشّريعة، وعمل الفصائل في القيام بأمور الدين بحسب القدرة والطّاقة عقيدةً وعبادةً ومعاملةً وتعليمًا، وهو أمر قائم ومستمر، ولا يشترط أن يُذكر ذلك في كلّ تجمّع أو تحالفينظر ص ()، و()..

3. بناءُ الدّولة لا بدَّ فيه مِن مراحلَ، وأهمُّ مرحلةٍ حاليًا بالنّسبة للثّورة السّورية هي إسقاطُ النّظام، وتوفيرُ الأمن والغذاء للنّاس، ثمّ تكون هناك مراحلُ عديدة بحسب الوسع والقدرة، وحسب ما يستجدُّ مِن أمورٍ.

4. لا شكّ أنَّ حفظَ الدّين بتثبيت أركانه وأحكامه، والعمل على إبعاد ما يخالف دين الله ويعارضه، مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، قال الشاطبي رحمه الله: "فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانبِ الوجود كالإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك"الموافقات (2/18)..

لكنَّ القول: إنَّ حفظ الدين مُقدَّمٌ على حفظ النفس بإطلاق غير صحيح، ومخالف لنصوص الشرع وتقريرات أهل العلم.

حيث إنَّ كل مقصد من مقاصد الشريعة الخمسة (الدين، والنفس، والعقل، والنسل والعرض، والمال) على ثلاث مراتب: فالأعلى مرتبة هي الضرورات، ثم أدنى مرتبة وهي الحاجات، ثم المرتبة الأدنى وهي التحسينات، ولكلِّ مرتبةٍ شروطها.

فإذا تعارضت ضرورة حفظ النفس مع حاجة من حاجيات الدين فإنَّ ضرورة النفس تُقدَّم، ويكون حينئذٍ تقديم الأدنى على الأعلى مخالفًا للشرع، وجهلاً به.

ومثال ذلك: أن الشخص مطالب بالطهارة لصحة الصلاة، ومطالبٌ بالحفاظ على نفسه من التلف، فإذا لم يمكنه تطهير بدنه إلا بإتلاف نفسه لعدم قدرته على الوضوءِ لمرضٍ، أو برد، فتسقط عنه الطهارة حفظًا لنفسه، وكذا يباح له أكل الحرام من الميتة والخنزير للحفاظ على نفسه، كما يجوز له النطق بالكفر للحفاظ على حياته(د. فهد العجلان)..

قال الشاطبي رحمه الله: "لَوْ قَدَّرْنَا تَقْدِيرًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ التَّكْمِيلِيَّةَ تَحْصُلُ مَعَ فَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، لَكَانَ حُصُولُ الْأَصْلِيَّةِ أَوْلَى لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حِفْظَ الْمُهْجَةِ مُهِمٌّ كُلِّيٌّ، وَحِفْظُ الْمُرُوءَاتِ مُسْتَحْسَنٌ، فَحَرُمَتِ النَّجَاسَاتُ حِفْظًا لِلْمُرُوءَاتِ، وَإِجْرَاءً لِأَهْلِهَا عَلَى مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، فَإِن دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ بِتَنَاوُلِ النَّجِسِ، كَانَ تَنَاوُلُهُ أَوْلَى"الموافقات (2/26).. فقاعدة حفظ الدين على النفس صحيحة سليمة إذا كانت من الدرجة نفسها، أما إن كانت مرتبتها أقل فيُقدَّم حفظ النفس على حفظ الدين.

ومن تطبيقات ذلك في حال الدول والثورات:

أنَّ تقديم استتباب الأمن، وطمأنينة النّاس على دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم، في البلاد التي يقوم فيها جهادُ الدّفع، وتعصف بها الحربُ والفتن والمجاعات ونزوح الملايين، ودمار عامّ للبلاد، والقضاء على أصل البلاء، وهو النّظام وبقاياه في مؤسسات الدّولة، وجمع الناس على أصولٍ عامة تحفظ للناس كرامتهم وحريتهم، وإتاحة أمور الدعوة إلى الله، مقدَّمٌ على تطبيقِ بعض الحدودِ الشرعيةوالتقديم هنا من حيث اختلاف رتبة الضرورة والحاجية من جهة، ومن عدم إقامة الحدود في أجواء الحروب، كما سبق بيانه..

بل ولو لم يمكن إقامة كامل الشرع من أول مرة فإنَّ تقديم حفظ النفوس مقدَّم وأولى، وإلا فأيُّ دينٍ وأية حدودٍ ستُقامُ على المشردين أو أشلاء القتلى، أو بقايا مدنهم المدمرة؟!

فضلاً عن أنَّ الأمر يتعلق بمسألة من أهم مسائل السياسة الشرعية ألا وهي: التدرّج في إقامة الشرع، والتي بحثها أهل العلم المعاصرون، وبيّنوا الأدلة على جواز تطبيقها من الكتاب والسنة، وقول السلف وعملهم، وشروط ذلكوالبحوث في هذا الموضوع عديدة، ينظر: التدرّج في تطبيق الشريعة وعلاقته بالسياسة الشرعية، زياد الفواز. وللاستزادة ينظر: الشريعة الإسلامية بين التدرّج في التشريع، والتدرّج في التطبيق، للشيخ عبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني، والتدرّج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية، د. محمد الزحيلي..

أما تقديم هذه الأمور الحاجية على ضرورة الحفاظ على الأنفس ففيه إذهاب للدين والدنيا معًا.

ولا ينبغي الاستهانة بالحفاظ على الأمن وطمأنينة الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، فحفظ الأمن لأجل إقامة الدين -بمعناه الواسع الحقيقي لا المحصور في بضع حدود- مقصدٌ عظيمٌ مِن مقاصد الشّريعة، ومِن أقوال أهل العلم:

قول الغزالي رحمه الله: "الدّين والملك توأمان، والدّينُ أصلٌ، والسّلطان حارسٌ، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع"الاقتصاد في الاعتقاد (1/128)..

وقول الجرجاني رحمه الله: "نصبُ الإمام مِن أتمّ مصالح المسلمين، وأعظم مقاصد الدين"وللمزيد ينظر: مقصد حفظ نظام الأمة: مقاربة مقاصدية بقلم د. عليان بوزيان، مجلة المسلم المعاصر، العدد (140)..

وقول الماوردي رحمه الله: "لما في السّلطان مِن حراسة الدّين، والذبّ عنه، ودفع الأهواء منه، وحراسة التّبديل فيه، وزجر مَن شذّ عنه بارتدادٍ، أو بغى فيه بعنادٍ، أو سعى فيه بفسادٍ، وهذه أمورٌ إن لم تنحسم عن الدّين بسلطانٍ قويّ، ورعاية وافية، أسرعَ فيه تبديلُ ذوي الأهواء، وتحريفُ ذوي الآراء، فليس دينٌ زال سلطانُه إلا بُدّلت أحكامُه، وطُمست أعلامُه، وكان لكلّ زعيم فيه بدعة، ولكلّ عصر في وَهيِه أثرٌ، كما أنّ السلطان إنْ لم يكن على دينٍ تجتمع به القلوبُ حتى يرى أهله الطّاعةَ فيه فرضًا، والنّاصر عليه حتمًا، لم يكن للسلطان لبثٌ، ولا لأيامه صفوٌ، وكان سلطانَ قهرٍ، ومفسدَ دهر"أدب الدّنيا والدين ص (135)..

وهذا وعي منهم -رحمهم الله- بمنزلة الأمن والأمان على حياة الناس أفرادًا ومجتمعات.

5. مما ينبغي معرفته أنَّ إقامة الشريعة في الدولة والمجتمع ليست على طريقةٍ واحدةٍ في كل زمان ومكان، وخاصة في زمن تنحيتها عن الحياة، وبعد الناس عنها، بل إقامةُ الشّريعةِ وتطبيقُها يكون بحسب القدرةِ والاستطاعة، والموازنةِ بين المصالح والمفاسد، لا سيما في زمن الضّعفِ، وعدمِ التّمكين، عملًا بقاعدة: "تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما"، و"دفع أعظم المفسدتين باحتمال أخفِّهما".

قال ابنُ تيمية –رحمه الله- عن تولي يوسفَ عليه السلام على خزائن مصر: "وكذلك يوسفُ كان نائبًا لفرعونِ مصرَ، وهو وقومُه مشركون، وفعَلَ مِن العدل والخير ما قَدَر عليه ، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان"مجموع الفتاوى (28/68)..

وقال عن النّجاشي: "وكثيرٌ مِن شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دَخل فيها، لعَجزِه عن ذلك ... ونحن نَعلم قطعًا أنه لم يكن يُمْكِنه أنْ يحكُمَ بينهم بحُكمِ القرآن... والنّجاشيُّ ما كان يُمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإنَّ قومَه لا يقرُّونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولّى الرجلُ بين المسلمين والتّتار قاضيًا -بل وإمامًا- وفي نفسه أمورٌ مِن العدل يريدُ أنْ يعملَ بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك مَن يمنعه ذلك، ولا يكلّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسعها"مجموع الفتاوى (19/218)..

وقال: "وأما الماشون على طَريقَة الخُلفاء الرَّاشِدين فليسوا أكثر الأمة، وَلكن على هؤلاءِ الماشين على طريقَة الخُلفاء أن يعاملوا النَّاس بما أمر الله بهِ ورسُوله من العدل بينهم، وإعطاء كل ذِي حق حقّه، وإقامةَ الحُدود بِحَسب الإمكان، إذ الواجبُ هو الأمر بالمعروفِ وفعله، وَالنَّهي عن المُنكر وتَركه بِحسب الإمكان، فإذا عجز أتباع الخُلفاء الرَّاشدين عن ذلك قدَّموا خيرَ الخيرينِ حصولاً، وشرَّ الشَّرين دفعًا"الاستقامة (2/168)..

فتصوير المسالة أنَّه لا يمكن إقامة الأمن والطمأنينة، وإقامة الدولة، إلا بتطبيق كامل الشريعة فهم غالٍ غير صحيح.

ومن فرعيات هذه المسالة: حكم تولي الولايات في الحكومات التي لا تطبق الشرع، أو في تطبيقه نقصٌ أو خلل،

فقد بحث أهل العلم هذه المسألة، وأجازها فريقٌ منهم بشروط، من أهمها:

  1. ألا يترتب على المشاركة إقرار للكفر أو عمل به.

  2. أن تكون مصلحة المشاركة ظاهرة متحققة لا خفية أو موهومة أو لا اعتبار لها.

  3. ألا يترتب على تلك المشاركة مفسدة أعظم من المصالح المراد تحقيقها، أو المفاسد المراد درؤها ودفعها.

واستشهدوا على ذلك بأقوال العديد من أهل العلم، ومن ذلك قول ابن تيمية رحمه الله: "فمَن ولي ولايةً يقصد بها طاعةَ الله، وإقامةَ ما يمكنه مِن دينه، ومصالحِ المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه مِن الواجبات، واجتناب ما يمكنه مِن المحرّمات، لم يؤاخذ بما يعجِزُ عنه، فإنّ توليةَ الأبرار خيرٌ للأمّة مِن توليةِ الفجّار"مجموع الفتاوى (28/396)..

وقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تفسير قوله تعالى: {قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ}[هود: 91] قال: "ومنها أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئًا منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه،

وأنَّ هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعَّين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم.

نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم"تفسير ابن سعدي (1/388).. وعلى هذا الرأي غالب فتاوى العلماء في الوقت الحاليوقد قال فريقٌ من أهل العلم بمنع تولي مثل هذه الولايات، لكن أبقوا ذلك في نطاق الاجتهاد السائغ، لا كما ذهب إليه الغلاة من القول بأن ذلك من الشرك، وعدم الكفر بالطاغوت، فأطلقوا أحكام الكفر والتكفير على كل من شارك بمثل هذه الحكومات، حتى من عامة الشعب، كما سيأتي في الملحق (1) ص (). .

ولو أنَّ الغلاة اكتفوا بتحريم هذا الأمر وعدم قبول اجتهادِ أهل العلم فيه، واعتبروه خطأً لكان  محلَّ نظر، لكنهم يرونه من عدم تحكيم الشرع، وهو عندهم كفر، ويُكفرون به أهل العلم القائلين به، وهذا من التكفير في المسائل الاجتهادية، أو بالذنوب والمعاصي، كمسلك الخوارج الأوائل.

ومما لا شكّ فيه أنَّ الشّعبَ السّوريَّ يمرُّ بمرحلةِ استضعافٍ، وعدمِ تمكينٍ لأهلِ الحق، وتسلّطٍ لأهل الباطل، فالواجبُ العملُ بالشّرع حسب الطّاقةِ والوسعِ، وصيانةُ الحقوقِ والحرياتِ لعامّة الناس، وتمكينُهم مِن إقامة مصالحهم الدّينية والدنيوية، وإن وجدت بعضُ المحاذيرِ والمخالفاتِ التي تتعذّرُ أو تعسرُ إزالتُها، مع بذل الوسعِ في المناصحةِ، وتكميلِ إقامة الدّينينظر فتوى (حكم المجالس والتشكيلات التي تحوي مبادئ تخالف الشريعة، والتعاون معها) http://islamicsham.org/fatawa/2413، و الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، د. عطية عدلان، والمشاركات السياسية المعاصرة، د. محمد يسري.. وإذا عمل المسلم بمقتضى ذلك فقد استفرغَ وسعه وجهده، وعمل في حدود ما يستطيعه من تكليف، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعهاولا يعني هذا عدم المطالبة بتحكيم الشريعة، أو العمل عليه، بل إنَّ من أوجب الواجباتِ على كلِّ مسلمٍ العمل على هذا الأمر، والحشد له بكل الطاقات والإمكانات، ونشر التوعية به علمًا، وفكرًا، والتحذير من مخالفته، ونحو ذلك، كلٌ بحسب تخصصه وإمكاناته، والاستمرار في ذلك وعدم حصره في وقتٍ من الأوقات..

  • رابعًا:

قالوا: نصَّ الميثاق على محاكمةِ رموز النّظام بعيدًا عن الثأر والانتقام، وهذا مخالفٌ للشرع، لأنَّ أصحاب الرّدّة المغلظة ليس لهم في الإسلام إلا القتل. ويمكن الإجابة: 

بأنَّ الميثاقَ نصَّ على محاكمة مجرمي النّظام، والتّعامل بالعدل دون اللّجوء للانتقام غير المنضبط:

  • المادة الثانية: "للثورة السورية المسلحة غايةٌ سياسية هي إسقاطُ النّظام برموزه وركائزه كافّة، وتقديمُه إلى المحاكمة العادلة بعيدًا عن الثّأر والانتقام".

  • المادة الثامنة: "الثّورة السّورية هي ثورةُ أخلاقٍ وقيمٍ، تهدف إلى تحقيق الحرية والعدل والأمن للمجتمع السوري بنسيجه الاجتماعي المتنوع بكافّة أطيافه العرقية والطّائفية."

  • المادة العاشرة: "نرفض سياسةَ النّظام باستهداف المدنيين بمختلف الأسلحة بما في ذلك السّلاح الكيماوي، ونؤكّد على التزامنا بتحييد المدنيين عن دائرة الصّراع، وعدم امتلاكنا أو استخدامنا لأسلحة الدّمار الشامل".

وتشمل هذه المواد مسائل عديدة، مِن أهمها:

  • كيفية التعامل مع الأسرى ومحاكمتهم واستجوابهم.

  • كيفية تنفيذ الأحكام الشّرعية فيهم.

  • كيفية التّعامل مع مَن طلب منهم الأمان.

  • حكم التّعرض لنسائهم وأطفالهم.

وقد صدرت فيها فتاوى تبيِّن أحكامَهاينظر فتاوى: حكم من وقع أسيرًا في أيدينا من جنود النظام السوري http://islamicsham.org/fatawa/376. وحكم اعتقال المتهم، وتعذيبه، والواجب تجاه من يموت تحت التعذيب http://islamicsham.org/fatawa/2167. وحكم قتل نساء وأطفال الأعداء من باب المعاملة بالمثل  http://islamicsham.org/fatawa/1107. وحكم استيفاء الحقوق من الأعداء بعد إعطائهم الأمان  http://islamicsham.org/fatawa/970.، وهي من المسائل التي كثر خطأُ الغلاة فيها، مما يستدعي التأكيد على التعامل الشرعي معها وفق أصول المحاكمات العادلة، وليس في المطالبة بالخضوع للمحاكم، وعدم القتل لمجرد شهوة الانتقام والاتهام مخالفةٌ للشّرع.

أما مجرد رفع شعارات (التّحاكم للشّرع) دون وضع آلية واضحة لذلك فلا تعدو أن تكون مجرد شعارات، وهي لم تجعل أحكامَ تنظيم (الدّولة) شرعيةً ولا صحيحة، بل كانت مليئةً بالظّلم والاستبداد.

اشتراط إقامة حد الرّدّة على قادة النظام:

ما ورد في الاعتراض يقتضي حصرَ التّعامل مع النّظام وأتباعه في إقامةِ حدّ الرّدّة عليهم.

وهذا الشّرط مِن الجهل والتّنطّع، لأنَّ نتائج الجهاد والقتال غير معلومة، فقد يتمكن رأسُ النّظام وأركانه مِن الهرب، أو مِن الخروج بمساعدة بعض الدّول، وقد يُقتلون في أرض المعركة، وقد لا يُتمكّن منهم إلا بمفاوضات ...إلى غير ذلك مِن الاحتمالات، فاشتراطُ قتل قادة العدوّ للدّخول في حلفٍ ضدّه شرطٌ باطلٌ غريبٌ، ولم يسبق في حلفٍ أو جهاد.

وما يؤكد أهمية شروط إسقاط النظام، أو تنحيته عن البلاد قبل أي أمر آخر: أنَّ معظم الجهود الدّولية تنصبّ في محاولة الإبقاء على النّظام ورموزه، وإعادة تأهيله لحكم البلاد والعباد، وهذا أمرٌ في غاية الخطورة، ويكاد يهدّد مستقبل الثّورة والجهاد، ولو وصل الأمر بالثورة إلى خيار خروج أركان النّظام مِن البلاد، لضمان إنهاء حكمه، وإيقاف إراقة الدّماء والتّشريد لما كان لأحدٍ أنْ يتعنَّت ويصرّ على المحاكمة أو الاقتصاص، تغليبًا للصالح العام، وإنقاذًا للبلاد، وتبقى حينئذٍ الطرق الأخرى لملاحقة هؤلاء المجرمين للاقتصاص منهم في الدّنيا قدر المستطاع، لكن لا يكون ذلك شرطًا لعرقلة جهود قتالهم وتخليص البلاد منهم.

وللتصدي لهذه المخططات أصدرت معظم الفصائل العسكرية، والقوى الثورية، والسياسية، والهيئات الشرعية والقضائية، ومنظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى رموز وشخصيات وطنية عدة ما عُرف باسم "وثيقة المبادئ الخمسة"، والتي رعاها المجلس الإسلامي السوري، وتنصُّ على:

  1. إسقاط بشار الأسد وكافة أركان نظامه، وتقديمهم للمحاكمة العادلة.

  2. تفكيك أجهزة القمع الاستخباراتية والعسكرية، وبناء أجهزة أمنية وعسكرية على أسس وطنية نزيهة، مع المحافظة على مؤسسات الدولة الأخرى.

  3. خروج كافة القوى الأجنبية والطائفية والإرهابية من سـوريا، ممثلة بالحرس الثوري الإيراني، وحزب الله، وميليشيا أبي الفضل العباس، وتنظيم الدولة.

  4. الحفاظ على وحدة سوريا أرضًا وشعبًا واستقلالها وسيادتها وهويـة شعبها.

  5. رفض المحاصصة السياسية والطائفية.

وقد لاقَت هذه المبادئ ترحيبًا واسعاً، وارتياحًا عامًا، لما فيها من ردٍ على المحاولات المتكرِّرة من الأطراف الدولية لفرضِ إعادةِ النظام بصورةٍ أو أخرى، مع التهديدِ بتقسيمِ البلادِ، أو إبقاء الحكم في يد الطائفة النصيرية (العلوية)وللاطلاع على كامل نص بيان المجلس الإسلامي، وأسماء الموقعين عليها ينظر: http://sy-sic.com/?p=2221..

  • خامسًا:

قالوا: اشتمل الميثاقُ على اللّقاء والتعاون مع الأطراف الإقليمية دون بيان حال تلك الأنظمة ومواقفها مِن الإسلام والمسلمين في شتَّى البقاع، وعن صور هذا التّعاون واللّقاء وما يدور فيه مِن أحاديث. ويمكن الإجابة: 

1. بأنَّ الميثاق نصَّ على عدم القبول بالضّغوط والإملاءات الخارجية في عدّة مواد، وشدَّد عليها:

  • المادة الرابعة: "العمل على إسقاط النّظام عملية تشاركيّة بين مختلف القوى الثّورية، وانطلاقًا مِن وعي هذه القوى للبعد الإقليمي والدّولي للأزمة السورية فإنّنا نرحّب باللّقاء والتّعاون مع الأطراف الإقليمية والدّولية المتضامنة مع محنة الشّعب السّوري بما يخدم مصالح الثّورة".

  • المادة الخامسة: "الحفاظ على وحدة التّراب السّوري، ومنع أيّ مشروع تقسيمي بكلّ الوسائل المتاحة هو ثابتٌ ثوريٌّ غير قابل للتّفاوض".

  • المادة السادسة: "قوانا الثّورية تعتمد في عملها العسكري على العنصر السّوري، وتؤمن بضرورة أن يكون القرار السياسي والعسكري في الثورة سورية خالصًا رافضة أي تبعية للخارج".

  • المادة السابعة: "يهدف الشّعب السّوري إلى إقامة دولة العدل والقانون والحريات بمعزل عن الضّغوط والإملاءات".

فالاتهام بعد ذلك بالرّضوخ للخارج دون دليلٍ أو بيّنة- مع تاريخ هذه الجماعات ومواقفها- كذبٌ وفجورٌ في الخصومة.

2. مطالبةُ الفصائل بعدم التّعامل مع أيِّ دولة كافرة بينها وبين بلدٍ مِن بلاد المسلمين عداوةٌ أو حروب: هو شرطٌ لم يرد في كتابٍ، ولا سنّةٍ، وليس عليه أقوالُ أهل العلم، وما زال حكّام المسلمين يلتقون بالكفار معاهدين ومحاربين، ويعقدون معهم العقود والعهود، ولهؤلاء الكفّار عداوات أخرى مع مسلمين آخرين.

لكن يُشترط في هذه اللّقاءات أو المعاهدات ألا يكون في بنودها أو نتائجها إضرارٌ بمسلمين آخرينينظر فتوى: حكم عقد الهُدن والمصالحات مع النظام السوري http://islamicsham.org/fatawa/2274..

3. وكذلك اشتراط الإفصاح عن مكان عقد اللّقاءات، وأعضاء فريق التّفاوض، أو نتائج اللّقاءات والمفاوضات قبل حدوثها، فهو مِن التّعنّت الذي لا يمكن أنْ يحصل في أيّ لقاءات أو مفاوضات، لأن النتائج تكون وليدة المفاوضات واللقاءات، مع التّأكيد على أنَّه لابدَّ مِن وجود ضوابط لهذه المفاوضات، ذكرتها جملةُ المواثيق لهذه الفصائل.

4. مِن تناقضات الغلاة: أنّ تنظيماتهم تنقم على الفصائل السّورية أمورًا عديدة تقول بها حركات جهادية أخرى، فقد تكرَّرت مثل هذه المواثيق والمعاملات في جماعات أخرى غير سورية، واعتُبر ذلك مِن الحكمة والحنكة، فهذا الملا عمر أمير حركة طالبان الأفغانية أكّد في عددٍ مِن المناسبات طبيعة نظام الحكم والعلاقات الذي تطمح إليه الحركة فقال: "وأنّه سيضمن حقوقَ جميع فئآت الشعب بشکلٍ صحيح، وسيوطّد العلاقات الحسنة مع دول المنطقة، والعالم، وبخاصّة مع دول الجوار في ضوء الأصول الإسلامية، والمصالح الشّعبية في إطار الاحترام المتقابل"!

بل ومضى على نحو ذلك مِن هذه التّصرفات واللّقاءات والتّحركات زعماء كبار مِن زعماء الجهاد، كالشيخ عبد الله عزام وغيره دون نكير. فإن كان تنظيم (الدّولة) -وعامة الغلاة- يحتجون بمشايخ الجهاد، ويزعمون أنهم امتدادٌ لهم، فهذا منهجهم الذي ساروا عليه.

وسبب خطئهم في هذه المسالة:

اعتقادُهم أنَّ مهادنةَ أيِّ دولة أخرى تعادي المسلمين في مكان آخر هو مِن الرضا بهذا العداء، والإعانة لها، وموالاتها على خصومها المسلمين، وهذا إلزام باطل غير صحيح. فاللقاء مع مندوبي الدّول العربية، بل والعالمية والتّباحث في أمور الثّورة وغيرها، وتلقّي المعونات الإنسانية لعامّة الشّعب، أو الأسلحة، ونحو ذلك، ممّا يحقّق مصلحةً حقيقيّةً للثّورة السّورية، وليس فيه مخالفة شرعيةٌ ، وهو جهدٌ جائز مشروع، كما سبق تقريرهومن عجائب الغلاة أنَّه إذا تعلق الأمر بتنظيماتهم فإنَّ اللقاء مع الأعداء وعقد الهدن أمر جائز، بل بطولة وانتصار، أما إذا تعلق بغيرها من الجهات فهي خيانة وعمالة!.

5. مِن بدع الغلاة في العصر الحالي إيجابهم إعلان العداء لكلّ العالم، وسعيُهم إلى ذلك بكلّ سبيلٍ، وليس هذا ممّا يُقبلُ في شرعٍ، ولا عقل!

والنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن هذه سنتَه، ولا سنة مَن بعده مِن الصّحابة والخلفاء، وجميع حكام المسلمين، فإنه صلى الله عليه وسلم عَمِلَ على مصالحة أقوامٍ ليتفرّغ لأقوام آخرين، فصالح قريشًا وتفرغ لغيرها من قبائل العربوجريًا على عقلية الغلاة وأحكامهم فإنه يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ قريشًا على كفرها، وعلى حكمها لمكة بالطاغوت!، ثمّ إنّه ما قاتل  فارس والروم إلا بعد أنْ انتهى مِن الجزيرة العربية.

بل إنّ أحكام الهدنة مع الكفّار من المباحث المهمّة في الفقه الإسلامي وقد بيّن فيها أهلُ العلم حالات الهدنة، وأحكامها، وشروطها.

أمّا قول العدناني في كلمته (السّلميّةُ دين مَن؟!): "لن نرضى بنظامٍ أو دولةٍ لا تحكِّم شرع الله، ولو كان الدّين تسعًا وتسعين بالمئة لله فلن نرضى ولن نقنع، ولنسعِّرنّ القتال ولنقاتلنّ جيوش الأرض حتى يكون الدّين مئةً بالمئة كلّه لله في جميع أرض الله، ولتجتمع علينا أممُ الأرض قاطبة" انتهى.

فهو مِن السّفاهات التي لا يقرّها عقلٌ ولا شرعٌ، بل لا يمكن أن تكون، وسرعان ما سيجنون مآلات غلوهم ورعونتهم، والمقصودُ منها أن تطرب لها آذانُ السّذّج والمغفّلين، وتستقطب الجهلة المتحمّسينومِن آثار هذه البدعة بدعةٌ أشدُّ خطرًا منها، وأعظم جرمًا، وهي استجلاب الأعداء لبلاد المسلمين لقتالهم وإنزال الخسارة بهم، كما يزعمون. وعلى الرغم من فشل هذه الطريقة في القتال، وظهور عدم جدواها فعلًا من خلال عدة تجارب، إلا أنها محرمة شرعًا، بل هي من أعظم المخالفات الشّرعية، والكوارث التي يمكن أن تحل ببلاد المسلمين، وذلك لما يلي: 1- جلب الحرب والخراب لبلاد المسلمين، مخالفة للأمر الشرعي الصريح الواضح بالدفاع عن بلاد المسلمين، وتجنيبها الأعداء، وقد بذل النبي صلى الله عليه وسلم للدفاع عن المدينة جهده تارة بالخروج للقتال، وتارة بحفر الخندق، وتارة بعقد الهدن والمصالحات، فاستجلابُ الكفّار يتضمّن تسليطهم على رقاب المسلمين بالقتل، وعلى أموالهم بالنهب، وعلى أعراضهم بالهتك، وعلى بلادهم بالتّدمير، ثمّ تكون المعركة أكبر مِن أولئك الأغرار فينحازون إلى الجبال والكهوف أو يهربون إلى بلادٍ أخرى، ويتركون المسلمين لمصيرهم! مع سلامةِ بلاد الكفار مِن كوارث هذه الحروب. 2- مخالفة الأمر النبوي في عدم استجلاب الحرب ودفعها: - قال صلى الله عليه وسلم: (أيّها النّاسُ، لا تتمنّوا لقاء العدوّ ، وسَلوا الله العافيةَ، فإذا لقيتموهم فاصبروا) أخرجه البخاري (4/51، برقم 2966)، ومسلم (3/1362، برقم 1742). قال المازري رحمه الله في "المعلم بفوائد مسلم" (3/9): "المراد بهذا أي لا تَستهينوا بالعدوّ فتتركوا الحذر والتحفّظ على أنفسكم وعلى المسلمين، أو يكون لا تتمنّوا لقاءه على حالة يشكّ في غلبته لكم، أو يخاف منه أن يستبيح الحريم، أو يُذهب الأنفس والأموال أو يُدرَك منه ضررٌ" . - وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لمؤمنٍ أنْ يذلَ نفسَه، قالوا : وكيف يذلُ نفسَه؟ قال : يتعرّض مِن البلاء لما لا يطيق) أخرجه الترمذي (4/523، برقم 2254)، وغيره. وليس هناك أعظم من تعريض البلاد بأهلها، ودينها، وأخلاقها، وخيراتها للعدو المحتل الغاصب، كيف وقد عُدَّت فترات الاحتلال الصليبي لبلاد المسلمين، ثم الاستعمار الحديث من أعظم البلايا التي نزلت بالمسلمين؟ وإذا كان الغلاة يُشدِّدون على أنَّ إعانة الكافرِ على المسلمِ في معركةٍ ما كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، فكيف بتسليط الكفار على المسلمين، وتمكينهم من أرضهم، وتعريضهم للقتل، وانتهاك الأعراض، وضياع الثروات، وتغييرِ هويةِ البلاد؟ لا شك أنَّ ذلك أشدّ مِن مجرد إعانة الكفار على المسلمين!.

وتغفل جماعاتُ الغلوّ شرطي الاستطاعة والمآلات في جميع مراحل عملها، مع أنهما شرطان مهمَّان، أكَّد عليهما الشّارع الحنيف، وذكرهما أهل العلم في العديد مِن المواضع، وخاصة في باب السّياسة الشّرعية.

ففي الاستطاعة قال ابن تيمية رحمه الله: "فالشّارع لا ينظر في الاستطاعة الشّرعية إلى مجرّد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعلُ ممكنًا مع المفسدة الرّاجحة لم تكن هذه استطاعةً شرعيّةً، كالذي يقدر أن يحج مع ضررٍ يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلّي قائمًا مع زيادة مرضه، أو يصوم الشّهرين مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك"منهاج السنة (3/49)..

وفي المآلات قال الشاطبي رحمه الله: "النّظر في مآلات الأفعال معتبرٌ مقصودٌ شرعًا، كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفةً، وذلك أنّ المجتهد لا يَحكم على فعلٍ مِن الأفعال الصّادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعلُ مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُستجلب ، أو لمفسدة تُدرأ"الموافقات (5/177)..

  • سادسًا:

قالوا: غاب مبدأ الأخوة الإيمانية، وظهر في مواد الميثاق روح الانتماء إلى التراب والوطن، ومعاداة المهاجرين. وهم يقصدون هذه المواد:

- المادة الثالثة: "تستهدف الثورةُ عسكريًا النّظام السّوري الذي مارس الإرهاب ضدّ شعبنا بقواه العسكرية النّظامية وغير النّظامية، ومَن يساندهم كمرتزقة إيران وحزب الله ولواء أبي الفضل العباس، وكلّ مَن يعتدي على أهلنا ويكفّرهم كداعش، وينحصر العمل العسكري داخلَ الأرض السّورية".

- المادة الخامسة: "الحفاظ على وحدة التّراب السوري، ومنع أيّ مشروع تقسيمي بكلّ الوسائل المتاحة هو ثابتٌ ثوريٌّ غيرُ قابلٍ للتّفاوض".

- المادة السادسة: "قوانا الثّورية تعتمد في عملها العسكري على العنصر السّوري، وتؤمن بضرورة أن يكون القرارُ السّياسي والعسكري في الثّورة سوريًا خالصًا رافضةً أيَّ تبعيةٍ للخارج".

ويمكن الإجابة:

بأنَّه ليس في الميثاق ما يدلّ على المؤاخاة الدّينية بين المسلمين وغير المسلمين، كما أنَّه لم يتعرّض (للمهاجرين) بسوءٍ أو ذِكر. بل المذكورُ في الميثاق أنَّ الاعتماد في قيادة العمل العسكري ثم العمل المدني على أبناء سورية، لأن المراد منه بناء الدّولة، وقد سبق نقاش ذلكص ()..

  • سابعًا:

قالوا: غاب عن الميثاق إقامة دولة على حاكميّة الشّريعة، بل كلّ ما ذكروه العدل والقانون.
فيقال:

1. ذكر الميثاقُ أنَّ مرجعيته هي الشّريعة الإسلامية في عددٍ مِن المواد، فيشمل ذلك جميع فقرات الميثاق، ولا تُعادُ الضوابطُ في كلّ مادّة منها كما هو معهودٌ مِن المواثيق.

2. مِن الجهل والغلو الظن أنَّ كلمة العدل تتناقض مع الشّرع، فإنَّ مِن أهم مقاصد الشرع إقامة العدل:

قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء:85]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}[النحل:90]، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد:25].

فالعدلُ أساس الحكم، وغايته، وهو موافقٌ للشّرع ومقاصده، بل إنَّ العدل مع المعصية أو الكفر قد يكون خيرًا للنّاس في دنياهم مِن الظّلم مع الإسلام، قال ابن تيمية رحمه الله: "وأمور النّاس تستقيم في الدّنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظّلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل :إنّ الله يقيم الدّولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظّالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدّنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظّلم والاسلام"مجموع الفتاوى (28/146)..

وكلام أهل العلم في ذلك أشهر مِن أن ينقل.

3. لا يُشترط لاسم الدّولة أو شكلها شيءٌ محّدد كالإسلامية مثلًا، بل لم يعرف مثل هذا في التاريخ الإسلامي فضلًا عن النّصوص الشّرعية، فمتى ما حققت الدّولة المشروع الموافق لأحكام وضوابط الشّريعة فهي على مقتضى الشرع.

4. مِن السّياسة الشّرعية والفقه في الدّين عدمُ التّعلق بما لا ينفع التّمسك به مِن الأسماء أو الشّعارات، وخاصّةً إذا كان في ذلك مصلحة أعظم منها، فقد أمر النّبي صلى الله عليه وسلم بمحو اسمٍ مِن أسماء الله تعالى وهو (الرحمن)، وصفة النّبوة مِن اسمه مِن عقد صلح الحديبية الذي وقَّعه مع المشركين، لمصلحة الدعوة والمسلمين، ولا يُعدُّ ذلك تخليًا عن شيءٍ مِن ثوابتِ الدّين، ولا تنازلاً ولا انبطاحًا، ما دام المضمونُ صحيحًا.

قال النووي رحمه الله: "وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمّة الحاصلة بالصّلح، مع أنّه لا مفسدة في هذه الأمور، أمّا البسملة وباسمك اللهم: فمعناهما واحدٌ، وكذا قوله محمد بن عبد الله هو أيضًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصفه أيضًا صلى الله عليه وسلم هنا بالرّسالة ما ينفيها، فلا مفسدةَ فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أنْ يكتب مالا يحلُّ مِن تعظيم آلهتهم ونحو ذلك"شرح النووي (12/139).. فليس مِن الحكمة التّمسك باسم أو شعار والقتال عليه بينما يمكن تحقيق ذلك دونه !

5. ليس المقصود مِن هذا الميثاق إقامة الدّولة، بل تحقيقُ غايةٍ محدّدةٍ هي إسقاط النظام وتخليص البلاد منه، ثمّ يكون بناء الدّولة وإقامتها في خطوات كثيرةٍ لاحقة، والقفزُ مِن المرحلة الحالية إلى المراحل اللّاحقة مِن الجهل في سنن الله في الكون، وفي السّياسة الشرعية.

  • ثامنًا:

قالوا: لا تجوز المساواة بين الفرق والأديان والطوائف بل لابدَّ مِن التّعامل مع كلّ طائفة ضمن نصوص الشّرع وضوابطه.

ويقصدون بذلك المادة الثامنة: الثّورة السورية هي ثورة أخلاقٍ وقيمٍ، تهدف إلى تحقيق الحرية والعدل والأمن للمجتمع السّوري بنسيجه الاجتماعي المتنوع بكافة أطيافه العرقية والطائفية.
فيقال:

1. نصَّ الميثاق على العدل، ونصّ على إعطاء كلّ ذي حقّ حقَّه، وليس في ذلك مخالفة للشرع، ولا ما يقتضي المساواة المطلقة مِن كلّ وجه.

2. ما جاء في الميثاق من العدل، وأمن المجتمع، والحفاظ على النسيج الاجتماعي، هو أمر مطلوب شرعًا، ولا يعني بحالٍ من الأحوال مخالفة الشرع أو خروج عنه، فهذا لازم موجود في عقول الغلاة بسبب تخوينهم لغيرهم واتهامهم.

وقد دلّ الشّرع على اعتبار مثل هذه المواد في التعامل مع غير المسلمين، فقد جاء في وثيقة المدينة التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود:

"إنّ المؤمنين بعضُهم موالي بعضٍ دون النّاس.

وإنه مَن تبعنا مِن يهود فإنّ له النّصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم...

وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإنّ يهود بني عوف أمّةٌ مع المؤمنين.

لليهود دينُهم، وللمسلمين دينُهم مواليهم وأنفسُهم إلا مَن ظلم وأثم...

وإنّ على اليهود نفقتَهم، وعلى المسلمين نفقتُهم، وإنّ بينهم النّصر على مَن حارب أهل هذه الصّحيفة، وإنّ بينهم النّصح والنّصيحة، والبرّ دون الإثم..."أخرجه ابن هشام في سيرته (2/107)، وابن كثير في البداية والنهاية (3/275). وقد تناول الباحثون هذه الوثيقة بالدراسة والتحليل، واستخلاص الدروس منها، ومن ذلك: السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري (1/284)، ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله، ص (57)..

فقد أقرّت الوثيقة سكّانَ المدينة (شعبًا واحدًا)، لكلّ فئة منه حقوقه وواجباته التي تقوم بها الدّولة، ويحافظ المجتمع على هدوئه واستقراره.

3. مما وقع فيه الغلاة في هذه النّقطة أنّهم لم يفصّلوا ولم يبيّنوا ما هي أحكام التّعامل مع هذه الطّوائف والأديان، مع أنهم انتقدوا أقلّ مِن ذلك كما سبق، وكان الواجب عليهم في نقدٍ علني أن يظهروا ويبينوا ما يعتقدون أنَّه مِن الشرع في التعامل مع سائر الأديان الطوائف غير المسلمة، للنّظر فيه واعتماد ما يوافق الشّرع منه مِن قِبل أهل العلم، فلا يكفي (الادّعاء بالرّجوع للدين الحنيف، فلا بدّ من موافقة الأقوال والأفعال للكتاب والسنة) كما ذكروا سابقًا.

إلا إن كانوا يعتقدون أنَّه ليس هناك فهمٌ للشّرع وأحكامه إلا فهمهم فحسب.. أو أنَّهم يخشون إظهار ذلك وإعلانه، فقد وقعوا في أشدّ مما اعترضوا عليه!

  • تاسعًا:

مِن أهم الأخطاء التي يقع فيها الغلاة تصويرُ كلّ فعل للحرام أو اضطرارٍ بأنه رضًا به، فينقلون المسألة مِن باب الحلال والحرام إلى باب الكفر والإيمان، وادّعاءُ هذا التّلازم باطلٌ ومردود، فالرّضا أمرٌ زائدٌ على مجرّد الفعل، ولا يُشترط أن يكون موجودًا مع كلّ فعل.

ومِن الأمثلة على الفعل المحرم مع الرضا ودون رضا ما يلي:

1. مجالسة أهل الكفر:
فقد نهى الله المؤمنين عن الجلوس مع أهل الكفر والضّلال في مجالسهم التي يخوضون فيها بالباطلالجلوس مع الكفار إذا كان في مجلس ليس فيه كفر واستهزاء بآيات الله فليس منهيًا عنه بإطلاق، وإذا كان لغاية مشروعة كدعوتهم أو لجلب مصلحة للمسلمين كان مشروعًا، بل قد يكون واجبًا إذا تعيَّن طريقًا لتحصيل واجب كفك أسير أو دفع ظلم، ونحو ذلك.، قال تعالى: {إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم}[النساء:140]. قال الطبري رحمه الله: "فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه"تفسير الطبري (9/320)..

وقال ابن كثير رحمه الله: "{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} أي في المأثم، كما جاء في الحديث: (مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدَار عليها الخَمْر)"تفسير ابن كثير (2/435).. لكن هذا الجلوس يصبح كفرًا إذا كان معه قبولٌ بما يقولونه أو يفعلونه مِن كفرٍ أو رضًا به. قال الواحدي رحمه الله: "وقوله: {إنكم إذا مثلهم} يعني: إن قعدتم معهم راضين بما يأتون مِن الكفر بالقرآن والاستهزاء به"تفسير الواحدي "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (1/296)..

2. النطق بالكفر:

فالأصل أنّ النّطق بالكفر كفر، لكن إن تخلف عنه الرضى القلبي في حال الاضطرار فليس بكفر. قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106].

وعن محمّد بن عمار بن ياسر قال: (أخذ المشركون عمّارَ بنَ ياسرٍ، فلم يتركوه حتى سبّ النّبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتَهم بخيرٍ، ثمّ تركوه، فلمّا أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءَك؟ قال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُركتُ حتى نلتُ منكَ، وذكرتُ آلهتهم بخيرٍ، قال: كيف تجد قلبَك؟ قال: مطمئنٌّ بالإيمان، قال: إن عادوا فعُدْ)أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/362، برقم 16896)، والحاكم في المستدرك (2/389، برقم 3362)..

قال الطّبري رحمه الله: "فتأويل الكلام إذن: مَن كفر بالله مِن بعد إيمانه، إلا مَن أُكره على الكفر، فنطق بكلمةِ الكفرِ بلسانه، وقلبُه مطمئنّ بالإيمان، موقنٌ بحقيقته، صحيحٌ عليه عزمُه، غيرُ مفسوح ِالصّدرِ بالكفر، لكن مَن شرح بالكفر صدرًا فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعًا، فعليهم غضبٌ مِن الله، ولهم عذابٌ عظيم"تفسير الطبري (17/305)..

فقد أجاز الله تعالى للمضطر أن ينطق بالكفر دون أن يعتقده في قلبه، ولم يُرتِّب على هذا النّطق خروجًا من الملة.

ينبني على ذلك: أنَّ إقامة الدّولة في الحدود الحالية لا يعني الرّضا بها بديلًا عن وحدة ديار المسلمين، بل ولا تعني الرّضا بعمل الكفّار أصلًا، بل قد تكون عملًا بما هو مستطاع وممكن، وما استقر عليه الأمر ممّا يتعذّر تغييرُه ابتداءً.

والخلاصة:

أنَّ (ميثاق الشرف الثوري) ليس فيه تنازلٌ أو تهاونٌ أو تمييعٌ، بل فيه تغليبٌ للمصلحة، وحمايةٌ للثورة، والعملُ بالمستطاع المتاحوللمزيد ينظر ملف (ميثاق الشرف الثوري .. خطوة نحو النصر) http://syrianoor.net/files/1887، وأنَّ اتهامات الغلاة لبقية الفصائل بتمييع الدّين والرّضا بالكفر نابعٌ من عقيدتهم الغالية الخارجية في التّكفير، وسوء ظنهم بالآخرين، واتهامهم بالشُّبه والظنون، مع تزكية النّفس وتعظيمها، والعُجب بها.

المصدر: كتاب "شُبهات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأنصاره والرَّد عليها" الشبهة العشرون، د. عماد الدين خيتي

1 - وعند النّظر في موقف تنظيم (الدّولة) من التحالفات التي ظهرت بين الفصائل في العراق وأفغانستان، وليبيا، واليمن،) نجد النّتيجة نفسها في التّخوين والتّكفير.
2 - مدارج السالكين (1/109).
3 - بل إنَّ جهودَ الأمة وتراثها في محاربة تمييعِ الدين وتحريفه كثيرةٌ متنوعةٌ، وخاصة جهود ما بعد الاستعمار، عندما حوربت الشريعة ونُحيت كثيرٌ من أحكامها عن أكثرِ بلاد المسلمين، بينما بقيت جهودُ محاربة الغلو قليلةً ضعيفةً مقارنةً بهذه الجهود، وبأثرِ ما أحدثه الغلو من آثارٍ خطيرةٍ في مجتمعات المسلمين، وذلك لالتباسِ الغلو على كثيرٍ من الناس، وبعضِ أهل الفضل، بسبب إحسانِ الظن بهؤلاءِ الغلاة بهم لرفعهم شعاراتٍ ومطالباتٍ دينية، أو بسبب الإحجام عن نقدهم لاختلاطهم بالمجاهدين، وخشيةَ استغلال الأعداء لهذا النقدِ في الطعنِ في الدين الصحيح، وقد ظهرَ أثر هذا الضعفِ والتردّد جليًا في موقف العديدين من تنظيم (الدولة) عند بدايةِ ظهوره.
4 - سبق ص ().
5 - شرح ابن بطال (8/92).
6 - ينظر ص ()، و().
7 - الموافقات (2/18).
8 - (د. فهد العجلان).
9 - الموافقات (2/26).
10 - والتقديم هنا من حيث اختلاف رتبة الضرورة والحاجية من جهة، ومن عدم إقامة الحدود في أجواء الحروب، كما سبق بيانه.
11 - والبحوث في هذا الموضوع عديدة، ينظر: التدرّج في تطبيق الشريعة وعلاقته بالسياسة الشرعية، زياد الفواز. وللاستزادة ينظر: الشريعة الإسلامية بين التدرّج في التشريع، والتدرّج في التطبيق، للشيخ عبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني، والتدرّج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية، د. محمد الزحيلي.
12 - الاقتصاد في الاعتقاد (1/128).
13 - وللمزيد ينظر: مقصد حفظ نظام الأمة: مقاربة مقاصدية بقلم د. عليان بوزيان، مجلة المسلم المعاصر، العدد (140).
14 - أدب الدّنيا والدين ص (135).
15 - مجموع الفتاوى (28/68).
16 - مجموع الفتاوى (19/218).
17 - الاستقامة (2/168).
18 - مجموع الفتاوى (28/396).
19 - تفسير ابن سعدي (1/388).
20 - وقد قال فريقٌ من أهل العلم بمنع تولي مثل هذه الولايات، لكن أبقوا ذلك في نطاق الاجتهاد السائغ، لا كما ذهب إليه الغلاة من القول بأن ذلك من الشرك، وعدم الكفر بالطاغوت، فأطلقوا أحكام الكفر والتكفير على كل من شارك بمثل هذه الحكومات، حتى من عامة الشعب، كما سيأتي في الملحق (1) ص ().
21 - ينظر فتوى (حكم المجالس والتشكيلات التي تحوي مبادئ تخالف الشريعة، والتعاون معها) http://islamicsham.org/fatawa/2413، و الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، د. عطية عدلان، والمشاركات السياسية المعاصرة، د. محمد يسري.
22 - ولا يعني هذا عدم المطالبة بتحكيم الشريعة، أو العمل عليه، بل إنَّ من أوجب الواجباتِ على كلِّ مسلمٍ العمل على هذا الأمر، والحشد له بكل الطاقات والإمكانات، ونشر التوعية به علمًا، وفكرًا، والتحذير من مخالفته، ونحو ذلك، كلٌ بحسب تخصصه وإمكاناته، والاستمرار في ذلك وعدم حصره في وقتٍ من الأوقات.
23 - ينظر فتاوى: حكم من وقع أسيرًا في أيدينا من جنود النظام السوري http://islamicsham.org/fatawa/376. وحكم اعتقال المتهم، وتعذيبه، والواجب تجاه من يموت تحت التعذيب http://islamicsham.org/fatawa/2167. وحكم قتل نساء وأطفال الأعداء من باب المعاملة بالمثل  http://islamicsham.org/fatawa/1107. وحكم استيفاء الحقوق من الأعداء بعد إعطائهم الأمان  http://islamicsham.org/fatawa/970.
24 - وللاطلاع على كامل نص بيان المجلس الإسلامي، وأسماء الموقعين عليها ينظر: http://sy-sic.com/?p=2221.
25 - ينظر فتوى: حكم عقد الهُدن والمصالحات مع النظام السوري http://islamicsham.org/fatawa/2274.
26 - ومن عجائب الغلاة أنَّه إذا تعلق الأمر بتنظيماتهم فإنَّ اللقاء مع الأعداء وعقد الهدن أمر جائز، بل بطولة وانتصار، أما إذا تعلق بغيرها من الجهات فهي خيانة وعمالة!
27 - وجريًا على عقلية الغلاة وأحكامهم فإنه يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ قريشًا على كفرها، وعلى حكمها لمكة بالطاغوت!
28 - ومِن آثار هذه البدعة بدعةٌ أشدُّ خطرًا منها، وأعظم جرمًا، وهي استجلاب الأعداء لبلاد المسلمين لقتالهم وإنزال الخسارة بهم، كما يزعمون. وعلى الرغم من فشل هذه الطريقة في القتال، وظهور عدم جدواها فعلًا من خلال عدة تجارب، إلا أنها محرمة شرعًا، بل هي من أعظم المخالفات الشّرعية، والكوارث التي يمكن أن تحل ببلاد المسلمين، وذلك لما يلي: 1- جلب الحرب والخراب لبلاد المسلمين، مخالفة للأمر الشرعي الصريح الواضح بالدفاع عن بلاد المسلمين، وتجنيبها الأعداء، وقد بذل النبي صلى الله عليه وسلم للدفاع عن المدينة جهده تارة بالخروج للقتال، وتارة بحفر الخندق، وتارة بعقد الهدن والمصالحات، فاستجلابُ الكفّار يتضمّن تسليطهم على رقاب المسلمين بالقتل، وعلى أموالهم بالنهب، وعلى أعراضهم بالهتك، وعلى بلادهم بالتّدمير، ثمّ تكون المعركة أكبر مِن أولئك الأغرار فينحازون إلى الجبال والكهوف أو يهربون إلى بلادٍ أخرى، ويتركون المسلمين لمصيرهم! مع سلامةِ بلاد الكفار مِن كوارث هذه الحروب. 2- مخالفة الأمر النبوي في عدم استجلاب الحرب ودفعها: - قال صلى الله عليه وسلم: (أيّها النّاسُ، لا تتمنّوا لقاء العدوّ ، وسَلوا الله العافيةَ، فإذا لقيتموهم فاصبروا) أخرجه البخاري (4/51، برقم 2966)، ومسلم (3/1362، برقم 1742). قال المازري رحمه الله في "المعلم بفوائد مسلم" (3/9): "المراد بهذا أي لا تَستهينوا بالعدوّ فتتركوا الحذر والتحفّظ على أنفسكم وعلى المسلمين، أو يكون لا تتمنّوا لقاءه على حالة يشكّ في غلبته لكم، أو يخاف منه أن يستبيح الحريم، أو يُذهب الأنفس والأموال أو يُدرَك منه ضررٌ" . - وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لمؤمنٍ أنْ يذلَ نفسَه، قالوا : وكيف يذلُ نفسَه؟ قال : يتعرّض مِن البلاء لما لا يطيق) أخرجه الترمذي (4/523، برقم 2254)، وغيره. وليس هناك أعظم من تعريض البلاد بأهلها، ودينها، وأخلاقها، وخيراتها للعدو المحتل الغاصب، كيف وقد عُدَّت فترات الاحتلال الصليبي لبلاد المسلمين، ثم الاستعمار الحديث من أعظم البلايا التي نزلت بالمسلمين؟ وإذا كان الغلاة يُشدِّدون على أنَّ إعانة الكافرِ على المسلمِ في معركةٍ ما كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، فكيف بتسليط الكفار على المسلمين، وتمكينهم من أرضهم، وتعريضهم للقتل، وانتهاك الأعراض، وضياع الثروات، وتغييرِ هويةِ البلاد؟ لا شك أنَّ ذلك أشدّ مِن مجرد إعانة الكفار على المسلمين!
29 - منهاج السنة (3/49).
30 - الموافقات (5/177).
31 - ص ().
32 - مجموع الفتاوى (28/146).
33 - شرح النووي (12/139).
34 - أخرجه ابن هشام في سيرته (2/107)، وابن كثير في البداية والنهاية (3/275). وقد تناول الباحثون هذه الوثيقة بالدراسة والتحليل، واستخلاص الدروس منها، ومن ذلك: السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري (1/284)، ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله، ص (57).
35 - الجلوس مع الكفار إذا كان في مجلس ليس فيه كفر واستهزاء بآيات الله فليس منهيًا عنه بإطلاق، وإذا كان لغاية مشروعة كدعوتهم أو لجلب مصلحة للمسلمين كان مشروعًا، بل قد يكون واجبًا إذا تعيَّن طريقًا لتحصيل واجب كفك أسير أو دفع ظلم، ونحو ذلك.
36 - تفسير الطبري (9/320).
37 - تفسير ابن كثير (2/435).
38 - تفسير الواحدي "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (1/296).
39 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/362، برقم 16896)، والحاكم في المستدرك (2/389، برقم 3362).
40 - تفسير الطبري (17/305).
41 - وللمزيد ينظر ملف (ميثاق الشرف الثوري .. خطوة نحو النصر) http://syrianoor.net/files/1887

إضافة تعليق جديد