شبهات تنظيم الدولة وأنصاره والرد عليها: الشبهة الرابعة عشرة: في صفوف تنظيم الدولة مُغرر بهم ومن نيّته الخير!
تقول الشُّبهة: على فرض أنَّ تنظيمَ (الدّولة) منحرفٌ فكيف تُجيزون قتالَه وفي صفوفه مَن هو مغرَّرٌ به ومخدوعٌ، ومَن نيتُه إرادة الخير ونصرته، والجهاد في سبيل الله، فكيف تستبيحون قتالَهم وسفك دمائهم؟
كما أنَّه ليس هناك مصلحةٌ في قتال تنظيم (الدّولة)، أو الانشغال بالرّدّ عليه، بل المصلحةُ في حشد الطّاقات ضدّ النّظام، حتى لا تتشتّت الجهود، وتضعف الثّورة، وهذا ليس في مصلحةِ أحدٍ، فلم لا يؤجّل حلُّ الخلافات إلى ما بعد إسقاط النّظام؟
الإجابة عن الشُّبهة: هذه المقولةُ مبنيّة على عدم تصوّر المسألة تصوّرًا صحيحًا واقعيًا، وبيانُ ذلك في النقاط التّالية:
-
أولًا:
الأصلُ في الطّوائف التي لها قوّةٌ وشوكة ومَنَعة، ولها قيادةٌ تأتمر بأمرها، وتسمع وتطيع لها، ورايةٌ تقاتل تحتَها: أن يكون التّعاملُ معها بالمجموع العام، وما يغلب عليها، وما يظهر منها مِن عقائد وتصرفات. فإن أظهرت هذه الطّائفةُ العقائدَ الخارجية: فهي طائفةُ خوارجَ، وإن ظهر منها البغيُ فهي طائفةُ بغاةٍ،
وهكذا في جميع الطوائف والأديان والجماعات، فحُكم الطّائفة يشمل جميعَ أفرادها، ولا يتوقف الحكم عليها أو التّعامل معها على مخالفةِ بعض أفرادها لعامّة الطّائفة. فإذا ثبت أنَّ "تنظيم الدّولة" تنظيمٌ خارجيُّ المعتقد، فيشمل حكمُه جميعَ الأفراد، ويُقاتَلون جميعًا دون تفريقٍ بينهم.
قال ابن تيمية رحمه الله: "والطّائفةُ إِذا انتصر بَعْضُها بِبَعْض حتّى صارُوا ممتنعين فهم مشتركون في الثَّواب والعقاب... فأعوانُ الطَّائِفَة الممتنعة وأنصارُها مِنْها فِيما لَهُم وعليهم وهكَذا المقتتلون على باطِل لَا تأوِيلَ فِيهِ مثل المقتتلين على عصبيّةٍ ودَعوى جاهِلِيَّة...؛ لِأَنّ الطّائِفَةَ الواحِدَة الـمُمْتَنع بَعْضُها بِبَعْض كالشّخص الواحِد"مجموع الفتاوى (28/312)..
وسُئل ابنُ تيمية عن أجنادٍ يمتنعون عن قتال التّتار ويقولون: إنّ فيهم مَن يخرج مكرَهًا معهم، وإذا هرب أحدُهم هل يُتبع أم لا؟ فأجاب:
"الحمد لله ربّ العالمين، قتالُ التّتار الذين قدموا إلى بلاد الشام واجبٌ بالكتاب والسنّة... وقد اتّفق علماءُ المسلمين على أنّ الطّائفة الممتنعةَ إذا امتنعت عن بعضِ واجبات الإسلام الظّاهرة المتواترة فإنّه يجب قتالُها... والتّتار وأشباهُهم أعظمُ خروجًا عن شريعة الإسلام مِن مانعي الزكّاة والخوارج مِن أهل الطّائف الذين امتنعوا عن ترك الرّبا. فمَن شكّ في قتالهم فهو أجهلُ النّاس بدين الإسلام، وحيث وجب قتالُهم قوتلوا وإن كان فيهم المكرَه باتّفاق المسلمين..."مجموع الفتاوى (28/544)، وكلامه طويل في تقرير قتال الطائفة الممتنة، فيرجع إليه..
وقد كان الرّسولُ صلى الله عليه وسلم يُخاطب رؤساء القبائل، والملوك، والزُّعماء، وينذرهم ويُقيم عليهم الحجّة، فإنْ سالموه أو أسلموا: كان سِلمُه لهم ولأقوامهم، وحرَّم دماءهم وأموالهم جميعًا، وإنْ حاربوه حاربهم جميعًا، واستحلّ منهم ذلك، دون أن يكون ذلك لكلِّ فردٍ مِن أفراد قومهم أو جيوشهم.
ثم قاتل الصحابة رضوان الله عليهم الممتنعين عن أداء الزكّاة، وفتحوا البلدان، وقاتلوا الخوارجَ. وعلى ذلك جرى أهلُ العلم في أقوالهم وعملهم، ولم يشترط أحدٌ منهم ألا يكون في صفوف المُقاتلين مَن هو مغرَّرٌ به، أو مخدوع، أو جاهل؛ إذًا لتوقف الجهاد في سبيل الله!
- ثانيًا:
إذا كان في أفراد هذه الطّوائف مَن له عذرٌ مِن جهلٍ، أو تغريرٍ، أو غير ذلك: فإنه يُبعث على نيّته يوم القيامة، كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها، عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ بِالْبَيْتِ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ، قَالَ: نَعَمْ، فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ، يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)أخرجه البخاري (3/65، برقم 2118)، ومسلم (4/2210، برقم 2884)..
وفي حديث أمّ سلمة رضي الله عنها: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ)أخرجه مسلم (4/2208، برقم 2882)..
قال النووي رحمه الله: "وفيه أنّ مَن كثَّر سوادَ قومٍ جرى عليه حكمُهم في ظاهر عقوبات الدّنيا"شرح النووي (18/7)..
فالواجبُ في التّعامل مع الخوارج عمومًا، وتنظيم (الدّولة) خصوصًا: قتالُهم، ومدافعتهم، كما ورد في الأحاديث النّبوية السّابق ذكرها، ومَن كان ضمن هذا التّنظيم ممّن له عذرٌ شرعي، فاللهُ حسيبُه يوم القيامة.
ولا يجوز أن تكون مراعاة وجود بعض المغرّر بهم في صفوف التّنظيم سببًا في استمرار الاعتداء على المسلمين، وإهدار دمائهم، وتخريب جهادهم، تحت ذريعة الورع عن قتالهم، وهم لا يتورَّعون عن إفساد عقيدة المسلمين، والطّعن في دينهم، والولوغ في دمائهم!
وخاصةً أنَّ هؤلاء (المغرّر بهم) أو (الجاهلين) هم مادةُ حربِ المجاهدين، وأدواتُ قتلهم وتفجيرهم، فلا بدّ مِن دفع شرِّهم وضررهم، أمّا عدم التّصدي لصيالهم وعدوانهم بدعوى سلامة نيّتهم ففيه تعطيلٌ للجهاد، وإهلاكٌ للمجاهدين، فضلًا عن مخالفته لما يقتضيه العقل السليم مِن التّصدي للمعتدين.
- ثالثًا:
إنّ تنظيم (الدّولة) وغيره مِن تنظيمات الغلاة قد عملت بعكس هذا الذي تنادي به، فقد كفَّرت جميعَ مخالفيها، وأجازت قتلَهم دون تفريق. فـقد كفَّرت (الهيئة الشرعية) التّابعة للتّنظيم عناصرَ التّنظيمات الأخرى، وأحلّت دماءهم بمجرد الانتساب لتلك الجماعات، ووجّهت الهجمات بالمفخّخات والقصف، بل وقتلت معهم الكثير مِن النّساء والأطفال. وجاء في بيان (الهيئة الشرعية):
"فإذا تقررت ردّةُ أمراءِ ما يُعرف بالجبهة الإسلامية؛ كأبي عيسى الشيخ رئيس مجلس الشورى، وزهران علوش القائد العسكري، وحسان عبود رئيس الهيئة السياسية، بما تقدّم مِن مناطاتٍ كفريّةٍ كتولي المرتدّين والكفّار، وتصحيح مذهبِهم، وغير ذلك، فليُعلم أنّ كلَّ مَن التحق بهؤلاء المرتدّين بعد العلم بحالهم، وقاتل تحتَ رايتهم فحكمُه حكمُهم سواء بسواء، فلا خلافَ بين أمّة التّوحيد في حكم مَن صار مع المرتدّين، وأعداء الدّين، في أنّه مِن جملتهم، وحكمَه حكمُهم...
ورِدّةُ هؤلاء الأتباع يكون مِن جهة اتّباعهم المرتدّين مِن أمراء ما يُسمّى بالجبهة الإسلامية؛ فالقاعدةُ أنّ التّابعَ له حكم المتبوع، وهذه التّبعية والمشاركة لهؤلاء الأمراء ردّةٌ عن دين الإسلام، فهم كالطّائفة الواحدة في الأحكام الدّنيوية، وكذلك في الأخروية..."انتهىورد في بيان الهيئة الشرعية التنظيم قولهم: "فإذا تقرَّر هذا فليعلم أن حكم الردة لا يطَّرِد عندنا في أفراد وأتباع ما يسمى بالجبهة الإسلامية، إلا بعد علمهم بحال رايتهم المتمثلة في أمرائهم، فلا يحكم بردَّة أعيان هذه الطائفة إلا بعد علمهم بحال أمرائهم" انتهى. وقد يظن القارئ لهذه العبارة أنَّ تنظيم (الدولة) لا يُكفر أفراد الفصائل المخالفة إلا بعدَ إقامة الحجة، والصحيح عكس ذلك، فهم يعدّون كل من عمل في تلك الفصائل مرتدًا، وأصدروا العديد من البيانات الرسمية والإصدارات التي يفتخرون فيها بالتفجير في المرتدين، أو ذبح المرتدين، ويقصدون بهم المجاهدين من الفصائل الأخرى، وبيانات أخرى في (استتابة) من كان في صفوف هذه التنظيمات. بل إنهم أصدروا بيانات في (استتابة) من كان يعمل موظفًا مع النظام، كاستتابتهم لموظفي التعليم العام، مع أنهم ينفون تكفيرهم لعموم المسلمين، وسيأتي ص (). وهذه الدعوى كغيرها من دعاواهم التي ثبت كذبهم فيها واستعمالهم للتقيَّة والباطنية معها، فهم لا يقولون بالعذر بالجهل ويؤصلون لذلك وينافحون عنه، ثم يكذبون في ادعاء خلافه، وقد جاء في مجلتهم (دابق) العدد (6)، مقالاً بعنوان (قاعدة الظواهري والهراري والنظاري) لأبي ميسرة الشامي، عابَ فيه على من فرَّق بين أفراد الطائفة الممتنعة في التكفير والقتل، ومما جاء في المقالة: " فإن المرء إذا كان يقدّر وجود "مسلمين" في صفوف الطائفة، ويوسّع لهم دائرة العذر ليشملَ الجهلَ بأصل الدين، فسيضطر من حيث يشعر أو لا يشعر عاجلاً أو آجلاً إلى أن "يتورّع" و"يحتاط"، فلا يستهدف المرتدين خشية أن يقتل "مسلمين متأوّلين..". ثم يقول: "يُفرِّق بين الطائفة وأعيانها في اسم الكفر وبعض أحكامه، وهذا التفريق مخالف لإجماع السلف في حق الطوائف التي اجتمعت على كفر". ومن هذا الكذب الثابت عليهم، ما جاء في كلمة العدناني (لك الله أيتها الدولة المظلومة) التي تبرَّأ فيها من العديد من (التهم) التي تنسب للتنظيم والتي ثبت فعلهم لها لاحقًا، ومن ذلك قوله: "إن الغرب الكافر اليوم يَشنّ حملةً إعلاميةً شعواء ضد مجاهدي الدولة الإسلامية في العراق والشام ... ومن أبرز ما تتمثّل به هذه الحملة الخبيثة: أولاً: اتهام الدولة الإسلامية بتفجير المساجد في المناطق السُّنيَّة في العراق..." ثم كانوا هم من فجَّر المساجد في العراق لقتل بعض السياسيين السنة الذين رموهم بالردة، ثم فجَّروا في مساجد سوريا والسعودية، وجميع ذلك ببيانات رسمية من مؤسساتهم الإعلامية..
فقد كفَّر التنظيمُ الجنودَ تبعًا لتكفيرِ القادة، واستحلَّ دماءهم بذلك، وعلى الرغم من هذا التكفيرِ المُتسلسل، إلا أنَّ التنظيمَ قد حكم على عامةِ الجنودِ بحكمٍ واحدٍ دون اعتبارٍ لإكراهٍ، أو تغريرٍ، أو غيرِ ذلك. بل إنَّهم تجاوزوا ذلك إلى قتل عامّة المسلمين ممّن لا علاقةَ لهم بالحرب عن طريقِ القصفِ للمناطق المحاصرة، فقتلوا منهم الكثيرين بما يعمّ مِن القنابل والصّواريخ، وحتى الأسلحة الكيميائية. فكيف يعترضون على مَن يُدافع جنودهم المعتدين بالعموم وهم يُقاتلون كافة المسلمين بالعموم؟!تجاوز الغلاة مجرّدَ التعامل بالعموم مع المخالفين إلى مسائل أكثر خطورة في استحلال الدّماء، والتّهاون بالقتل، ومِن ذلك: 1- (قتل المصلحة) ويعنون به قتلَ المخالف في المعتقد أو التوجه إذا خشي منه تغيُّرٌ في المستقبل، أو تغيير منهج الجماعة. ومِن هذا الباب أجازوا قتل النساء والأطفال لمصلحة الحفاظ على المجاهدين، أو أعراضهم، كما زعموا. 2- (قتل التترس)، ومع أن مسألة التترس في الفقه الإسلامي معلومة، وهي: أنْ يتخذَ العدو طائفةً مِن النَّاس المعصومين من المسلمين أو غيرهم بمثابة التُرس يحمي بهم نفسَه أثناء الحرب، كأخذهم رهائن، أو جعلهم في أماكن حساسة، للتدرُّع بهم فلا يَقْدِر المسلمون على العدو قتالهم إلا بإصابة هؤلاء بهم من المعصومين، فأجاز أهل العلم للضرورة ضرب هؤلاء الترس ولو أدى إلى قتلهم، من باب دفع أعلى المفسدتين بأدناهما، ورفع الضّرر عن بقية المسلمين، بشرط ألا يمكن ضرب العدو إلا بضرب هؤلاء المعصومين، وألا يقصد ضرب الترس مباشرة، ويتحاشاهم قدر المستطاع. لكن الغلاة توسعوا في قضية التترس، وعكسوا بعض صورها، ومِن ذلك: أ- العمليات التفجيرية التي يقومون بها وسط المجمعات السكنية، أو المدن وفي الطرقات لضرب الأعداء، واعتبار من يسقط من المدنيين الذين يعيشون أو يعملون فيها مِن الترس. ب- الهجوم على الكفار غير المحاربين في بلادهم أو بلاد المسلمين، مع ما يُقتل مِن المسلمين في هذه العمليات. ويضعون لذلك العديد مِن المبررات التي يظنّونها شرعية، مثل: إسقاط أمان هؤلاء الكفار، والزعم أنَّ قتلهم مِن باب مماثلة ما يقوم به الكفار مِن قتل المسلمين، والزعم بأنَّ موت هؤلاء المسلمين هو من باب التُّرس، وأنّ موتهم على الإسلام بهذه التفجيرات خير لهم مِن الحياة تحت سلطان الكفار أو (المرتدين)، وخطر ذلك على عقيدتهم، ودينهم، وأخلاقهم، ومستقبل أجيالهم! 3- القتل بالاستفاضة: ويُقصد بالاستفاضة: الاشتهار بين الناس. والشهادةُ بالاستفاضة معمول بها في عددٍ محدودٍ من الأحكام الشرعية التي مبناها على الاشتهار، كإثبات النسب، والنكاح، والموت، والوقف، كما ينظر بالاستفاضة في الروايات الحديثية. وقد وضع أهل العلم للشهادةِ بالاستفاضةِ شروطًا، من أهمها: أن يكون الشاهد عدلاً، وأن يكون المتحدثون بالخبر جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأن يكون الخبر المستفيض عن واقعة يصح اشتهارها. مع اتفاقهم أنَّا لا تكون في الحدود والقصاص. لكن المبتدَع عند هؤلاء الغلاة مستبيحي الدماء: استحلال قتل المسلم معصوم الدم بما (استفاض) بين الناس من اتهام لهذا الشخص، مع أنَّ الحدود والقصاص لا يُقبل فيها إلا ما كان دليلاً قطعيًا لا شك فيه، وأنَّها تُدرأ بالشبهات! .
كما أنَّ الغلاة –ومنهم تنظيم (الدولة)- كفَّروا العساكر في الدول المسلمة كلها، بكافة قطاعاتها العسكرية والأمنية؛ وزعموا أنَّها طائفة ممتنعة، واستحلُّوا بذلك قتل أفرادها دون تفريق، مع أن كثيرًا من أفراد هؤلاء العساكر يتعاملون مع قضايا أمنيةٍ أو معيشية تتعلق بتسيير حياة عامة الناس بعيدًا عن كثيرٍ من المحظورات الشرعية، كطاعةِ الحاكمِ في معصيةِ الله، أو إعانته على ظلمه، لكنهم لم يعتبروا ذلك مانعًا من تكفيرهم أو استباحة دمائهم، لكن إن تعلَّق الأمر بتنظيماتهم تناسوا ذلك وصاروا يعتذرون بالتَّغرير وحُسن النية!
- رابعًا:
أنّ وقوع التّغرير على بعض الموجودين في صفوف التّنظيم لا يُعفيهم مِن تبعة الاشتراك في جرائم وبدع تلك العصابة ، وهم مؤاخَذون على ارتكاب جرائمهم تلك. وقد قرَّر أهلُ العلم أنَّ تأويلَ الخوارج للنّصوص غيرُ سائغٍ، وأنَّهم غيرُ معذورين فيه؛ لأنَّه قائمٌ على اتباع الهوى في تفسير النّصوص ممّن ليس له حقُّ الاجتهاد والنّظر في أخطر الأمور الشّرعية، وهو التّكفير واستحلال الدّماء بذلك، فهم مِن أبعد النّاس عن العلماء، وأكثرهم رفضًا لكلامهم، وازدراءً لهم.
قال ابنُ الحاج رحمه الله: "ومِن قول أهل السّنّة: أنَّه لا يُعذر مَن أدّاه اجتهادُه إلى بدعةٍ؛ لأنَّ الخوارجَ اجتهدوا في التّأويل فلم يُعذَروا؛ إذ خرجوا بتأويلهم على الصّحابة، فسمّاهم عليه السلام مارقين مِن الدّين، وجعل المجتهدَ في الأحكام مأجورًا وإن أخطأ"المدخل (2/326).. ولعلّ مقصوده فيمن اجتهد في الدّين، وليس له أهلية النّظر والاجتهاد، ويوضّحه قولُ النّووي رحمه الله: "فأمّا مَن ليس بأهلٍ للحُكم فلا يحلُّ له الحكمُ، فإنْ حكم فلا أجرَ له، بل هو آثمٌ، ولا ينفُذ حكمُه، سواء وافق الحقَّ أم لا؛ لأنّ إصابتَه اتفاقيةٌ ليست صادرةً عن أصلٍ شرعيٍّ، فهو عاصٍ في جميع أحكامه، سواء وافق الصّوابَ أم لا، وهي مردودةٌ كلُّها، ولا يُعذر في شيءٍ مِن ذلك"شرح النووي (12/14)..
وقال ابن حجر رحمه الله: "وإنّما فسقوا -يعني الخوارج- بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويلٍ فاسدٍ، وجرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم، والشّهادة عليهم بالكفر والشّرك"فتح الباري (12/300)..
- خامسًا:
في الرّدّ على شُبهات تنظيم (الدّولة) وقتاله مصالح كبيرة، دينيّة ودنيويّة:
- فالرَّد على أهل البدع، وكشف ضلالهم وانحرافهم مِن أفضل الأعمال وأجلِّها؛ لما فيه مِن حماية الدّين، وتنقيته مما يُلحقه به أهلُ الغلوّ والابتداع، والنّصحِ للخلقِ بتحذيرهم مِن الوقوع في الابتداع، وفي ذلك حمايةٌ لأعلى ضرورةٍ مِن الضّرورات، وهي: الحفاظ على الدّين؛ لذلك كان الردُّ على أهل البدع مِن أفضل القربات إلى الله تعالى.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "مَن أتاه رجلٌ فشاوره، فدلَّه على مبتدعٍ فقد غشّ الإسلام"شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 155)..
وقال يحيى بن يحيى رحمه الله: "الذَّبُّ [أي الدّفاع] عن السّنّة أفضلُ مِن الجهاد"مجموع الفتاوى (4/13)..
وقال ابنُ تيمية رحمه الله: "وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: إنه يَثقُل عليَّ أنْ أقول فلانٌ كذا، وفلانٌ كذا. فقال: إذا سكتَّ أنت، وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهلُ الصّحيحَ من السّقيم؟!
ومثل أئمّة البدع مِن أهل المقالات المخالفة للكتاب والسّنّة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإنّ بيانَ حالهم، وتحذيرَ الأمّة منهم واجبٌ باتّفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرّجلُ يصوم ويصلّي ويعتكف أحبُّ إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلّى واعتكف فإنّما هو لنفسه، وإذا تكلّم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضلُ. فبيَّن أنّ نفعَ هذا عامٌّ للمسلمين في دينهم مِن جنس الجهاد في سبيل الله"مجموع الفتاوى (28/231)..
وقال ابنُ القيم رحمه الله: "فقِوامُ الدّين بالعلمِ والجهاد، ولهذا كان الجهادُ نوعين: جهادٌ باليد والسِّنان، وهذا المشاركُ فيه كثيرٌ، والثاني الجهادُ بالحُجة والبيان، وهذا جهادُ الخاصّة مِن اتباع الرُّسل، وهو جهادُ الأئمّة، وهو أفضلُ الجهادَين؛ لعِظَم منفعتِه، وشدّة مُؤْنته، وكثرة أعدائه"مفتاح دار السعادة (1/70)..
فإذا كان بيانُ حالِ أهل البدع عمومًا مِن الأهمّية بمكان، فإنَّ بيانَ حال الخوارج أولى وأهم؛ لما في بدعتهم مِن الاعتداء على الأمة، وإفساد دينها ودنياها بالقوّة.
ونقل ابن حجر قول ابن هبيرة رحمهما الله: "وفي الحديث أنّ قتالَ الخوارجِ أولى مِن قتال المشركين، والحكمةُ فيه أنّ في قتالهم حفظَ رأسِ مالِ الإسلام، وفي قتالِ أهل الشّرك طلبُ الرِّبح، وحفظُ رأسِ المال أولى"فتح الباري (12/301)..
وقال ابنُ تيمية رحمه الله: "تطهيرُ سبيلِ الله ودينه ومنهاجه وشرعته، ودفعُ بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك: واجبٌ على الكفاية باتّفاق المسلمين، ولولا مَن يُقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدّين، وكان فسادُه أعظمَ مِن فساد استيلاء العدوِّ مِن أهل الحرب؛ فإنّ هؤلاء إذا استولوا لم يُفسدوا القلوبَ وما فيها مِن الدّين إلا تبعًا، وأمّا أولئك فهم يُفسدون القلوبَ ابتداءً"مجموع الفتاوى (1/175)..
- وفي قتالهم دفعٌ لصيالهم واعتدائهم على الأنفس والأموال المعصومة، واستنقاذُ ما احتلّوه مِن مناطق، وما استولوا عليه مِن ممتلكات.
وقد أثبت هذا الموقف مِن التّنظيم صحتَه وصوابَه؛ فقد انكشفت حقيقتُه المنهجية والفكرية التي اغترَّ بها بعضهم، وسُحب الغطاء الشرعي عنه، فتحقّق بذلك الحفاظُ على حياة المجاهدين وقادتهم، وحماية مناطقهم مِن احتلال الغلاة وعدوانهم، وعدم تَكرار مأساة هدم الجهادِ كما حصل في العراق وأماكن أخرى على يد هؤلاء وأمثالهم . فمصلحةُ الحفاظ على دين الأمّة، ودمائها مقدَّمةٌ على حفظ بعض أفراد تلك التّنظيمات الإجرامية.
- والخلاصةُ:
أنَّ الحكم على طائفةٍ ما والتّعامل معها يكون بمنهجها العام، وما يغلب عليها مِن معتقدات وتصرّفات، ولو كان بعضُ أفرادها جاهلين بذلك، كما هو الحال مع تنظيم (الدّولة) الخارجي الذي يُمثل أسوء جماعات الخوارج في العصر الخارجي. وأنَّ في فضح عقائد تنظيم (الدّولة) والتَّصدي له مصالحُ دينية ودنيوية عظيمةٌ، وهي مصلحةٌ راجحةٌ مقدَّمة على مصلحة بعض الأفراد الجهلة، أو المغرّر بهم في التّنظيم.
المصدر: كتاب "شُبهات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأنصاره والرَّد عليها" الشبهة الرابعة عشرةَ، د. عماد الدين خيتي
إضافة تعليق جديد