شبهات تنظيم الدولة وأنصاره والرد عليها: الشبهة الثانية: صدور فتاوى واجتهادات التنظيم من هيئة شرعية معتبرة
يقول أفراد التنظيم: إنّ فتاوانا، وبياناتنا، وجميع ما يصدر عنّا مِن قرارات وأحكام إنّما يصدر عن هيئةٍ شرعيةٍ معتبرةٍ، مكوَّنة مِن طلبةِ علمٍ، أخذوا العلمَ عن المشايخ، وفي المؤسسات العلمية، وحصل بعضُهم على شهاداتٍ شرعيةٍ عليا، فلا يجوز ردُّ أقوالهم وفتاواهم لمجرد المخالفة.
الإجابة عن هذا: في هذا الكلام مغالطاتٌ عديدةٌ، بيانها فيما يلي:
- أولًا:
مجرّدُ الحضور عند المشايخ، والجلوس في حلقاتهم، وأخذ بعض العلم عنهم، أو الدّراسة في الجامعات أو المعاهد لا تجعل الشّخص من أهل العلم أو الفتوى، بل لا تعدو أن تضعه على عتبات العلم، وتيسّر له سبلَ المنهجية في طلبه، وليست العبرة بمجرد الجلوس، أو عدد الدروس، أو كمية الكتب المقروءة، أو السّنوات المقضية، أو الشّهادات المتحصلة، بل بالفهم السّليم والحفظ والتأهُّل.
ولا يستحق الشخص أن يُعدّ مِن أهل العلم إلا إن شهد له العلماء، واستفاض أمرُه، واشتهر فضلُه، وعُرف بعلمه، وعدم شذوذه عن الحقّ، أمّا الإفتاء والقضاء بين النّاس، فله شروطٌ أخرى سبق بعضها.
كما أنَّ تزكيةَ العالم لطالبِ العلم لا تعني أنَّ طالب العلم هذا مزكَّى في كلّ شيء، أو إلى الأبد، ولا تدلّ على صحّةِ كلِّ ما يقول، وإلا لكان ذلك عصمةً له، بل تعني أنَّ هذا الشّخص مِن المقبولين في العلم الشّرعي، ثم يُنظر في أقواله وأعماله فإن كانت موافقةً للحق فيُقبل منه، وإلا كان كلامهُ مردودًا -كائنًا مَن كان- لا سيما إذا انحرف عن طريقة أهل العلم.
فكونُ الشخص من العلماءِ أو من طلبة العلم لا يعني الأخذَ بما يقوله إذا خالف الشرع؛ بل من خالف الشرع لم يؤخذ بقوله، ومن عرف حال شرعيي هؤلاء وفتاواهم وأقضيتهم عرف أن فعلهم لا يسوّغه مجتهد، ولا يقول به عالم على منهج أهل السنة.
كما أنَّ تعلّقُ تنظيم (الدّولة) بهذا الكلام مردودٌ وباطل؛ لأنَّ من درس من شرعييه عند أهل العلم أو في المؤسسات التعليمية، قد خالفوا المشايخ الذين درسوا عليهم، والمؤسسات التعليمية التي تخرّجوا فيها، في المنهج، وفي الفتاوى، وطعنوا بهم، وكالوا لهم التُّهم، ونَكَلوا عن طريقتِهم إلى طريقة أخرى لا يرتضيها أهلُ العلم أولئك، فلا حجّةَ لهم بذلك.
قال الشّاطبي رحمه الله: "وللعالم المتحقّقِ بالعلم أماراتٌ وعلاماتٌ تتّفق مع ما تقدّم وإن خالفتها في النّظر، وهي ثلاثٌ:
إحداها: العملُ بما علم حتى يكون قولُه مطابقًا لفعله، فإن كان مخالفًا له فليس بأهلٍ لأنْ يؤخذ عنه، ولا أنْ يُقتدى به في علم..
والثّانية: أنْ يكون ممّن ربّاه الشّيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم، فهو الجديرُ بأنْ يتّصف بما اتّصفوا به مِن ذلك، وهكذا كان شأن السّلف الصالح؛ فأوّلُ ذلك ملازمةُ الصّحابة -رضي الله عنهم- للرسول صلى الله عليـه وسلم، وأخذُهم بأقواله وأفعاله .... و حسبك مِن صحّة هذه القاعدة أنّك لا تجد عالـمًا اشتهر في النّاسِ الأخذُ عنه إلا وله قدوةٌ اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلّما وُجدت فرقةٌ زائغةٌ، ولا أحدٌ مخالفٌ للسّنّة إلا و هو مفارقٌ لهذا الوصف ...
والثالثة: الاقتداءُ بمَن أخذ عنه، والتأدّبُ بأدبه كما علمتَ مِن اقتداء الصّحابة بالنّبي صلى الله عليـه وسلم، واقتداء التّابعين بالصّحابة، وهكذا في كلِّ قرن ... فلمّا تُرك هذا الوصفُ رَفعت البدعُ رؤوسَها؛ لأنَّ تركَ الاقتداء دليلٌ على أمرٍ حدث عند التّارك أصْلُه اتّباعُ الهوى" الموافقات (1/141).
فالعبرةُ بتحصيل العلم الصّحيح، والورع والتقوى، والتمسك بمنهج أهل العلم، لا بالمناصب، أو الأتباع، أو المؤلّفات والشهادات.
- ثانيًا:
ما قيل عن دراسة شرعيي تنظيم (الدّولة) وقضاتهم وقادتهم وأخذهم عن المشايخ غير صحيح في الغالب، بل الثابتُ أنَّ معظمَهم لم يطلب علمًا على شيخٍ، ولم تُعرف له سابقةٌ في طلب العلم، فضلًا عن أنهم مجاهيل غير معروفين، مجاهيل العين أو الحال، وظهور أسماء بعض أفرادهم لا يرفع الجهالة عن جهاتهم المختصّة بالفتيا غير المزكَّاة من أهل العلم.
إذ إنَّه لا يُؤخذ بقولِ كلِّ مَن ادَّعى العلم أو حفظ شيئًا منه، إلا ممّن شهد له أهلُ العلم الراسخون بالعلم، والقدرة على الفتيا، ومِن كلامهم في ذلك:
قال النووي رحمه الله: "ولا يُتعلَّم إلا ممن تكمَّلت أهليتُه، وظهرت ديانتُه، وتحقَّقت معرفتُه، واشتهرت صيانتُه؛ فقد قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرُهـما مِن السلف: (هذا العلم دينٌ، فانظروا عمَّن تأخذون دينَكم)" التبيان في آداب حملة القرآن ص (47).
وقال رحمه الله: "أدركتُ بالمدينة مئةً، كلُّهم مأمونٌ [أي مِن الكذب]، ما يؤخذ عنهم الحديثُ، يُقال: ليس مِن أهله"أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب في أنّ الإسناد من الدين (1/15).
فإذا كان هذا في حقِّ مَن عُرفت ديانتُه وأمانته، فكيف بالمجاهيل الذين لا يُعرفون، ولا يُعرف أهم أهلُ سنةٍ أم أهلُ بدعة؟ قال ابنُ سيرين رحمه الله: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمّا وقعت الفتنةُ، قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فَيُنْظَرُ إلى أهل السّنّة فَيُؤْخَذُ حديثهم، وَيُنْظَرُ إلى أهل البدع فلا يُؤْخَذُ حديثهم"المصدر السابق.
وكتب مالك بن أنس إلى محمد بن مطرّف: "سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أمّا بعدُ: فإني أوصيك بتقوى الله - فذكره بطولة - ... خذه -يعني العلمَ- مِن أهله الذين ورثوه ممّن كان قبلهم يقينًا بذلك، ولا تأخذ كلّ ما تسمع قائلًا بقوله فإنّه ليس ينبغي أنْ يؤخذ مِن كلِّ مُحْدِثٍ، ولا مِن كلِّ مَن قال"الكفاية في علوم الرواية،للخطيب البغدادي ص (159).
وقال الإمام مالك رحمه الله: "ليس كلُّ مَن أحبَّ أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يُشاور فيه أهلُ الصّلاح والفضل وأهلُ الجهة مِن المسجد، فإنْ رأوه لذلك أهلًا جلس. وما جلستُ حتى شهد لي سبعون شيخًا مِن أهل العلم إني لموضعٌ لذلك"ترتيب المدارك، للقاضي عياض (1/142) .
وقال الشّاطبي رحمه الله: ".. والثّاني: أن لا يكون مِن أهل الاجتهاد، وإنّما أدخل نفسَه فيه غلطًا أو مغالطةً؛ إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهلُ الرّتبة، ولا رأوه أهلًا للدّخول معهم؛ فهذا مذمومٌ. وقلّما تقع المخالفةُ لعمل المتقدّمين إلا مِن أهل هذا القسم"الموافقات (3/287) .
وإذا كانت قراءةُ القرآن لا بدّ فيها مِن الأخذ عن أهل العلم بسندٍ وإجازةٍ، فكيف بفهم القرآن واستنباط الأحكام الشّرعية منه؟
- ثالثًا:
ذكر أهلُ العلم مراتبَ للعلماء، ومَن تؤخذ عنه الفتوى ومَن لا تؤخذ، ومَن يحقّ له أن يجتهدَ ومَن لا يحقّ له، وجعلوا لكلِّ فنٍّ مِن فنون العلم مراتبَه وشروطَه، وراعَوا الاختصاصَ، فمَن تقدّم في علمٍ لم يقبلوا قولَه في علمٍ آخرَ إذا لم يتقدّم فيه، لكنّ الغلاةَ عمومًا ابتدعوا في ذلك طريقةً تقوم على تزكيةِ كلِّ مَن تصدّر منهم للعلم والفتوى، فيأخذون عنه في كلّ العلوم، ويجعلون له حق الاجتهاد في أدقّ المسائل وأخطرها ، ويُضفون عليه مِن الألقاب التي لا تُطلق على الكبار مِن العلماء الصادقين؛ لمجرد موافقته لهم، وشهادتهم له.
ثمّ إنْ أخطأ أو ظهر عوار فتياه ورأيه في أمرٍ عظيم كأمور الدّماء والأعراض، قيل إنّه مجتهدٌ، ونرجو له الأجر الواحد! فتسلَّط بذلك الجهلةُ والسّفهاء على دين الله –تعالى- يحلّلون ويحرّمون ويعبثون، دون رادعٍ أو رقيبٍ، بحجّة الاجتهاد.
- الخلاصةُ:
أنَّ شرعيي تنظيم (الدّولة) مِن المجاهيل الذين لم يُعرفوا بعلمٍ، ولم يشهد لهم أهلُ العلم أو يزكوهم، فليس لهم القدرةُ، ولا الحقُّ في الفتيا ولا الاجتهاد في المسائل اليسيرة مِن العلم، فضلًا عن أمور النّاس العظيمة، كمسائل الدّماء، والأعراض، والأموال، والتّكفير وغيرها.
المصدر: كتاب "شُبهات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأنصاره والرَّد عليها" الشبهة الثانية، د. عماد الدين خيتي
إضافة تعليق جديد