الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق 19 جمادي اول 1446 هـ

الجهاد فريضة ماضية / الردّ على العثماني في دعواه تاريخية آيات الجهاد | سلسلة فقه الجهاد - تجديد واجتهاد (6)

08 ذو الحجة 1443 هـ


عدد الزيارات : 3702
د. عطية عدلان

 

لم يجرؤ أحدٌ من المنتسبين للعلم الشرعي -فيما أعلم- على ردّ هذه الفريضة المحكمة وإنكارها؛ ذلك لأنّ ظهورها كالشَّامَةِ بين شعائر الإسلام وشرائعه يُلْجم كلَّ لسان أو بَنَان يَجمَح عن الرشاد والسداد ويَجنَح للتخريف والتجديف، فأقصى ما يطمح فيه طامحٌ أن يُشَوِّشَ على هذه الفريضة؛ ليُبطل عملها ويُضعف أثرها ويُعطّل مسيرتها، فتارةً تُؤْخَذُ النماذج المنحرفة عن الجادّة ويتم إذاعتها وإشاعتها على أنّها الجهاد الإسلاميّ المقدّس، وتارة يُتَّهمُ الإسلام بأنّه انتشر بحدِّ السيف؛ لينبريَ فريقٌ يَدَّعي الدفاع عن حمى الإسلام فيحصرُ الجهاد الإسلاميّ في جهاد الدفع وحسب، وهكذا ..

حتى جاء الدكتور العثماني ليفاجِئَنا بهذه النظرية الغريبة عن الفقه الإسلاميّ، ويدّعي أنّ آيات القتال في القرآن الكريم كانت تخاطب النبيّ ﷺ ومن معه من جيل الصحابة خاصّة، وأنّها موقّتة بذلك التاريخ لا تُجاوزه إلى ما وراءه من الأزمان، وليست الأمّة مُلزَمةً بما تضمّنته الآيات من أحكام شرعية، وإنّما يكفيها أن تنطلق من واقعها لتحقّق المقاصد التي قرّرتها الآيات بالوسائل التي تراها مناسبة للزمان والمكان والحال! هذا الكلام البالغ الخطورة أذاعه في بحثٍ اختصره في محاضرة حضرها مجموعة من العلماء وطلبة العلم، جُلُّهم خالفه وبعضُهم وافقه، والبحث قد أشار إليه في محاضرته، والمحاضرة منشورة[1].

وكأنّه يريد أن يُشَرْعِنَ -بأثر رجعيّ- ما قام به من تطبيع مع الكيان الصهيونيّ، ختم به مسيرته السياسية؛ ليفرغ سريعًا إلى إكمال مسيرته البحثية، التي بدأها من قبلُ بطرح التصرّفات النبوية بالسياسة والإمامة وراء جدار التشريع؛ ليحرّر السياسة من قيود الشريعة، وتتمحّض للمصالح المنظورة للعقل والتجربة، واليوم ينثَني ليسحبَ النظرّية على فروع الشريعة المنبثّة بكثرة في ميدان السياسة الشرعية الواسع الرحيب، فيدّعي أنّ القتال من التصرفات "الدنيوية" المفوّضة في كلّ زمان إلى السلطة السياسية، بلا أدنى تدخّل من الشريعة، اللهم إلّا بما أقامته من مبادئ عامّة ومقاصد كلّية.

يقول العثماني: "هذا النوع من الأحكام خاصٌّ بزمان نزول القرآن الكريم أو بقوم معيّنين ممن خاطبهم … وهي ليست أحكامًا مرتبطة بعللها وجودًا وعدمًا؛ لأنّها مرتبطة بمصالح عامّة وليس بعلل خاصّة، وليست أحكامًا مرحلية لأنّها لا تتطور نحو حكم تشريعيّ ديني نهائيّ، بل هي أحكام مرتبطة بمقاصد عامّة تعالج ظروفًا معيّنة عاشتها الجماعة المؤمنة في عهد الرسول ﷺ بما يكافئها، وليس مطلوبًا من المسلمين معالجة ظروف مماثلة بمثل ما واجهها به الرسول ﷺ، بل المطلوب منهم الاجتهاد لتحقيق مقاصد الشرع في الواقع بإبداع الوسائل المكافئة لعصرهم وظروفهم" [2].

ويقول أيضًا: "وعلى المنوال نفسه فإنّ خصوصيّة الدعوة الإسلامية في عصر النبوة بحكم كونها تأسيسية قد تقتضي ورود أحكام خاصّة بها وبظروفها وحاجياتها … لذلك قال ﷺ قبل غزوة بدر: (يا ربِّ إنْ تهلك هذه العصابة فلن تعبدَ في الأرض)، وهو امتياز لا يكون إلا لتلك الجماعة المؤمنة حول الرسول ﷺ ولا يكون لأيّ جماعة بعدها أبدًا … تلك إذن خصوصية لدعوة الرسول ﷺ" [3].

وحتى لا يراه القراءُ قابعًا في خندق الحداثيين الذين يقولون بتاريخية النصوص ووقتية الأحكام -ذلك القول الذي استبشعه علماء الأمّة ودعاتُها ومفكروها- رأيناه يتدسّس إلى الفكرة من مدخل أصوليّ، فيدعي -وكم بالدعاوى من مضحكات- أنّ هذا من قبيل العامّ الذي أريد به الخاص، فيقول: "ومن أنواع العامّ المراد به الخصوص في القرآن الكريم تلك الآيات التي عالجت أوضاع المجتمعات التي نمت فيها دعوة الرسول ﷺ، فكانت خاصّة بها وبفاعليها، ومن هنا فقد تتلبس الأوامر الشرعية في القرآن بظروف ذلك العصر وتعبّر عن حاجات الواقع الذي نزل فيه خاصّة، وقد يخطئ فيها بعض المفسرين فيعتبرونها عامّة لكلّ زمان ومكان قبل أن يثبت عكس ذلك بحكم تطوّر المعرفة والواقع البشريين"[4]، والواقع -بحسب رؤيته- أنّ الذي (أخطأ!) هو جميع المفسرين وليس بعضهم!!

وقبل أن أباشر الردّ على هذا الادعاء المردود أحبّ أن أنوّه إلى أمر غاية في الخطورة، وهو أنّ ما انتهى إليه الدكتور العثماني هو ذاته غاية ما يسعى إليه العَلمانيون والحداثيون لإبطال الشريعة، وإذا كانوا هم قد تعوّقوا كثيرًا بسبب خطابهم المتبجّح المتوقّح، فإنّ الدكتور العثماني قد وجد المسلك الذلول الذي ينْفُذ من خلاله إلى الغاية التي عجزوا هم عن بلوغها، فما أسهل أن تُرَدَّ أحكام الشريعة كلّها بهذه الذريعة، فلا يلبث العابث من أيّ فصيل أو قبيل أن يدّعي الدعوى نفسها لأحكام أخرى من أحكام الشريعة، ولن يعجز عن إيجاد الحيل والذرائع، ولو عن طريق العبث بأقوال الفقهاء والأصوليين، مثلما فعل هذا المحترم مما سيأتي بيانه بعد أن نطوف تطوافة سريعة على بعض أحلام الحداثيين وأوهامهم.

فهذا أحدهم يدّعي أنّ آية الأحزاب {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} موقّته بزمن النبوّة لتمييز الحرائر عن الجواري[5]؛ فبماذا ترد عليه سعادةَ الدكتور الهمام، وقد ساق من الظروف التاريخية الكثير من مثل ما عوّلت أنت عليه؟! وبماذا تردّ على الجابريّ وهو يُخَرِّج مسألة ميراث الابنة هذا التخريج التاريخانيّ، حيث ادعى أنّ توريث البنت نصف حظّ الابن إنّما جاء مراعاةً لطبيعة المجتمع القبليّ آنذاك؛ حيث كان توريث البنت من حيث الأصل سيؤدي إلى الإخلال بنظام اقتصاديّ قائم على ملكية القبيلة للمرعى ولحقّ الرعي على الشيوع، وهذا هو السبب الذي من أجله لم تكن البنت ترث في أغلب القبائل؛ فجاء الإسلام بحلّ وسط؛ مقصده رعاية مصلحة الناس (في ذاك الأوان)[6]، يعني ذاك الأوان وحسب!!

وبماذا تردّ على عبد المجيد الشرفيّ وقد زعم أنّ القصاص والدّية والعاقلة كانت أحكامًا مناسبة للمجتمع القبلي، وأنّها اليوم لم تعد مناسبة للمجتمع الحديث[7]! وكيف تُجيبه على اقتراحه المبني على الطريقة التاريخانية نفسها: "نظرًا لما حدث من تأويلٍ في عهد أبي بكر مع حروب الردّة أصبحت الزكاة هي التي توفّر موردًا من أهمّ موارد بيت مالِ المسلمين، أي ميزانية الدولة الإسلامية … فالضرائب في الحقيقة كما تمارسها الأنظمة الحديثة في الدول القومية والوطنية هي تعبير حديث عن نفس المفهوم" [8]!!

وهذا نصر حامد أبو زيد يُشَبِّه استدعاء المعنى التراثي للربا للتعبير به عن النُظم المعاصرة بمثابة لبس الجلباب في المواصلات المزدحمة فيؤدي "للكعبلة"[9]! إنّك يا سيدي بهذه القاعدة التي نَسَجْتها من قصاصات متناثرة وقلامات مبعثرة قد فتحت الباب على مصراعيه لمن يرومون إبطال الشريعة جملة؛ فإنّ طَرْدَ هذه القاعدة لا يؤدّي إلّا إلى هذه النتيجة؛ فهل إذا قال أحد من المسلمين إنّك ومَنْ نَهَجَ نهجك -وإنّكم لكُثُر- تمثّلون الجيل الرابع للفكر الحداثيّ بعد جيل جولد تسيهر وتلاميذه، وجيل حسن حنفي وأضرابه، وجيل أركون والجابري وأتباعهما؛ هل إذا قال أحدٌ من المسلمين ذلك يكون متجنّيًا عليكم؟

إنّ صرفك لظاهرة "العام الذي أريد به الخاص" إلى اتجاه تخصيص بعض الأحكام بزمن النبوة -مع كونه بعيد عن الصواب بُعْدَ المغرب عن المشرق- يمثّل متّكأً للداعين إلى إبطال الشريعة باسم تاريخية النصوص ووقتية الأحكام، وإنّك بنظريّتك الغريبة هذه لَتُعْطِيهم وتمنحُهم وتُتْحِفُهم بأمضى سلاح يحقّقون به غايتهم، التي طالما عبّروا عن شوقهم لها وشبقهم إليها، فانظر إلى "جعيط" وهو يقول فَرِحًا: "إنّ أهمّ شيء أتى به العلم الحديث بخصوص القرآن هو تورخته"[10]، واستمع للضالّ المبتدع "شحرور" وهو يقرر في زهو وغرور: "إنّ كلّ ما رُوي من أحاديث نبوية تتعلّق بأنماط الحكم يرتبط -إن صحّ- بالأنماط البنيوية التاريخية التي قيل فيها الحديث"[11]، إنّك تدعم من حيث تدري أو لا تدري مدرسةً قامت في الأصل على التورخة، المدرسة "الأركونية"، ولا ريب أنّ "ركيزة المشروع الأركوني تكمن في القراءة التاريخية للتراث، أو في تطبيق المنهج التاريخي ذي الأبعاد المتعدّدة على الفكر العربي الإسلاميّ" [12].

لقد ظلّ أركون والجابري وأبو زيد وغيرهم يجدّفون بمجداف "الهرمنيوطيقا" تجديفًا عبثيًّا غير مُجْدٍ، حتى جئتهم أنت -بدلاً من المجداف الكسيح- بماكينة دفع رباعي صنعتها بحذق عال وحرفية بالغة من جُمَل وعبارات فقهية وأصولية لا نسب بينها ولا سبب، فلست أدري بماذا أصف هذا الصنيع؟!

العام المراد به الخصوص ما هو؟

لكن مع الأسف انتهى تنقيبُك عمّا ظننتَهُ مَعْدِنًا نفيسًا وَعمّا حَسِبْتَهُ لؤلؤا ثمينًا إلى حفريات هَشَّة يكفي مجرد الإمساك بها لِتَهَشُّمِها وانْدِثارِ مَعَالِمِها، وإنّك -إذْ ذهبتَ لِتَدْلُفَ إلى موضوع التاريخانية من باب "العامّ الذي أريد به الخصوص"- كُنْتَ كَمَنْ حفر في الرباط ليبلغ كنزًا فرعونيًا في الجيزة؛ لا رابط بين الطريق المسلوك والغاية المقصودة، إنْ هو إلا التجديف وركوب الصعب.

إنّ طرحكَ هذا ليس من هذا الباب قطّ؛ لأنّ مبحث العام والخاص إنّما هو من مباحث الألفاظ، فالبحث في "عامّ يراد به الخصوص" إنّما يكون ببحث لفظة أو مفردة لغوية تُفَسَّر في سياق الجملة التي تحمل الحكم الشرعيّ تفسيرًا يصرفها من العموم الذي وُضعت له بأصل اللغة إلى معنى خاصّ؛ فتؤثر بهذا في توجيه هذا الحكم، ولابدّ من توافر الأدلّة القطعية المقارنة لزمن التشريع، لأنّ الأصل في العام العموم.

فلا ريب أنّ "العموم، والخصوص من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني والأفعال"[13]، وهذا ما عليه الجمهور من العلماء[14]، وهو الصحيح الراجح[15]، ولذلك درج العلماء على إدراج العامّ والخاصّ في مباحث الألفاظ؛ ونصّوا في تعاريفهم للعامّ والخاصّ على اللفظية، و"تخصيص اللفظ بالذكر إشارة إلى أنّ العموم من عوارض الألفاظ دون المعاني"[16]، فعندما عرّفوا العامّ قالوا: "العامّ: (لفظ) يستغرق جميع ما يصلح له بوضعٍ واحدٍ"[17]، وعندما عرّفوا الخاصّ قالوا: "أمّا الخاصُّ فكلّ (لفظ) وُضع لمعنىً واحد على الانفراد"[18]، وإذا تعارض العامّ والخاصّ قالوا: "إذا تعارض (لفظان) عن رسول الله ﷺ وكان أحدهما عامًّا والآخر خاصًّا … فالواجب في مثل هذا أن يُقْضَى بالخاصّ على العامّ لقوّته، فإنّ الخاصّ يتناول الحكم (بلفظٍ) لا احتمال فيه، والعامّ يتناوله (بلفظٍ) محتَمل، فوجب أن يُقضى بالخاصّ عليه"[19]، وهكذا ..

ولمزيد من الإيضاح نُورد الأمثلة على العامّ الذي أُريد به الخصوص، يقول الإمام الشافعيّ: "قال الله تبارك وتعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}، فالعلم يحيط -إن شاء الله- أنّ (الناس) كلّهم لم يحضروا عرفة في زمان رسول الله ﷺ، ورسول الله ﷺ المخاطب بهذا ومن معه، ولكن صحيحًا من كلام العرب أن يُقال: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} يعني: بعض الناس"[20]، ويقول الإمام البغوي: "{الذين قال لهم الناس} … أراد بـ (الناس): نعيم بن مسعود، في قول مجاهد وعكرمة، فهو من العامّ الذي أُريد به الخاصّ، كقوله تعالى: {أم يحسدون الناس} يعني: محمدًا ﷺ وحده، وقال محمد بن إسحاق وجماعة: أراد بـ(الناس) الركب مِن عبد القيس، {إن الناس قد جمعوا لكم} يعني أبا سفيان وأصحابه"[21]، ومِن الأمثلة قول الله تعالى: {وإنّه لحبّ الخير لشديد} (الخير) عامٌّ … ولكنه هنا خاصّ بالمال، فهو من العام الذي أريد به الخاص[22]، وكذلك قوله عزَّ وجَلّ: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: على عالمي زمانهم. وهو من العام الذي أريد به الخاصّ[23]، وهكذا ..

فالعامّ الذي أريد به الخصوص (لفظ) عامّ بأصل وضعه اللغويّ، عُلِمَ بالدليل القطعيّ أنّه لا يمكن أن يراد بهذا (اللفظ) العامّ ظاهر العموم، وإنّما أريد به الخصوص، أمّا توجيه الآيات القاضية بحكم فقهيّ مفاده وجوب القتال في سبيل الله بأنّها من قبيل العامّ الذي يُراد به الخصوص، وأنّ هذا الخصوص هو عهد النبيّ ﷺ؛ بدعوى أنّ "خصوصية الدعوة الإسلامية في عصر النبوة -بحكم كونها تأسيسية- قد تقتضي ورود أحكام خاصة بها وبظروفها وحاجياتها" فهذا إعمال للقاعدة في غير محلّها.

ولا يسعفك الاتكاء على هذا الدعاء: (يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض)؛ لأنّ هذا الوضع -وإن كان امتيازا "لا يكون إلا لتلك الجماعة المؤمنة حول الرسول ﷺ ولا يكون لأيّ جماعة بعدها أبدًا"- لا علاقة له بتخصيص وجوب القتال بعصرهم؛ لأنّ موجب القتال ليس محصورًا في اتّقاء الفناء، فهذا لا يقول به أحد من هذه الأمّة من العلماء كانَ أو الدهماء، إنّ الأصل المقطوع به -والذي لا يكفي للاستشهاد عليه قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"- أنّ خطاب الله تعالى المتعلّق بتكليف العباد يعمّ الأمّة إلى يوم الدين، إلّا ما استثناه الدليل الصحيح الصريح، فهل لديك الدليل القاطع على هذا الذي ذهبتَ إليه؟ وهل لكَ سلف من الأمّة؟

ولقد أكثر الدكتور المحترم من إيراد أقوال المفسّرين والعلماء؛ لدعم نظريته القاضية بأنّ آياتِ القتال وما فيها من أحكام: تشريعٌ خاص بعهد النبوة، وبأنّها من قبيل العامّ الذي أريد به الخاصّ، فهل تسعفه هذه النقول؟ وهل تُغْنِيهِ عن افتقار نظريته وافتقاد بدعته للدليل الصحيح الصريح على أنّ آيات القتال خاصة بزمن النبيّ ﷺ وأنّها من قبيل العامّ الذي يُراد به الخصوص؟ فلنستعرض الآن بعضًا منها لنقف على طريقته في قَلْبِ الأقوال وتغيير وجهتها لتوافق -بالعسف والقهر- توجّهه الغريب الْمَعيب.

من ذلك أنّه نقل كلام القرطبي حول اختلاف العلماء في قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الآية [البقرة: 216]، ثم قال: "ويذهب عدد من العلماء إلى أنّ الآية خاصّة بالصحابة، أي أنّها من العامّ المراد به الخصوص"، ثم نقل عن الطبري في تفسير الآية أقوال مجاهد وابن دينار والأوزاعي وغيرهم، ثم استدلّ على صحّة ما ذهب إليه بآية {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} الآية [النساء: 95]، وبعد أن نقل أقوال المفسرين كالطبري وغيره قال: "فوجب أن تكون كتابة القتال في الآية أو فرضه خاصًّا بمن خاطبتهم آنذاك وحدهم" [24].

ومن تأمّل أقوال العلماء لم يجدهم يتحدّثون عن فرض القتال في الأصل على الأمّة، إنّما تحدثوا عن الغزو أي عن جهاد الطلب، ولم يذكروا بالطبع مصطلح "الطلب" لأنّه وُضِع متأخّرًا للتعبير عن الغزو والفتح وعن ابتداء الكفار بالقتال بعد دعوتهم للإسلام، وتساءلوا: أواجب الغزوُ على جميع الناس فيكون فرضَ عين على كلّ مسلم، أم إنّه واجب على الكفاية بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين وصار في حقّهم مستحبًّا لا فرضًا مكتوبًا؟ فانتهوا جميعًا إلى أنّ الغزو -لا الدفع- فرض كفاية، واختلفوا في فهم "كتب عليكم" التي يفيد ظاهرها الوجوب العينيّ، فقال بعضهم إنّ هذا -أي الوجوب العيني-كان خاصًّا بالصحابة، ولا يعنون بذلك أنّه من قبيل العامّ الذي أريد به الخصوص، وإلا لما بقي للوجوب -بنوعيه العيني والكفائي- على غيرهم أثر، وهذا ما لا وجود له في سياق كلامهم، وقال آخرون بأنّ الوجوب كان عينيًّا في أوّل الأمر ثم نُسخ فبقي كفائيًا إلا إذا تعيّن بأيّ سبب آخر من أسباب التعيين، وهذا ما يفهم من سياق أقوالهم.

قال الإمام القرطبي: "واختلفوا مَن المراد بهذه الآية، فقيل: أصحاب النبي ﷺ خاصّة، فكان القتال مع النبي ﷺ فرض عين عليهم، فلمّا استقر الشرع صار على الكفاية، قال عطاء والأوزاعي. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس في هذه الآية؟ فقال: لا، إنّما كتب على أولئك. وقال الجمهور من الأمّة: أولُ فَرْضِهِ إنّما كان على الكفاية دون تعيين، غير أنّ النبي ﷺ كان إذا استنفرهم تَعَيَّن عليهم النفير لوجوب طاعته. وقال سعيد بن المسيب: إنّ الجهاد فرضٌ على كل مسلم في عينه أبدًا، حكاه الماوردي، قال ابن عطية: والذي استمر عليه الإجماع أنّ الجهاد على كلّ أمّة محمد ﷺ فرض كفاية، فإذا قام به مَن قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلّا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين … وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنّه قال: الجهاد تطوّع؛ قال ابن عطية: وهذه العبارة عندي إنّما هي على سؤال سائل وقد قِيمَ بالجهاد، فقيل له: ذلك تطوع" [25].

وقال الإمام أبو الفرج ابن الجوزيّ: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ} [البقرة: 216]، اختلفوا في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؟ فقال قوم: هي منسوخة لأنّها تقتضي وجوب القتال على الكلّ؛ لأنّ الكلّ خوطبوا بها، وَكِتابٌ بمعنى فَرْض، قال ابن جريج: سألت عطاء أواجب الغزو على الناس من أجل هذه الآية؟ فقال: إنّما كُتب على أولئك حينئذ، وقال ابن أبي نجيح سألت مجاهدًا هل الغزو واجب على الناس؟ فقال: لا؛ إنّما كُتب عليهم يومئذ، وقد اختلف أرباب هذا القول في ناسخها على قولين: الأول: أنّه قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} [البقرة: 286] قاله عكرمة، والثاني: قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ} [التوبة: 122]، وقد زعم بعضهم أنّها ناسخة من وجه، ومنسوخة من وجه، وذلك أنّ الجهاد كان على ثلاث طبقات: المنع من القتال، وذلك مفهوم من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] فنُسخت بهذه الآية ووجب بها التعيّن على الكلّ، وساعدها قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا} [التوبة: 41] ثم استقرّ الأمر على أنّه إذا قام بالجهاد قومٌ سقط عن الباقين بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ} والصحيح أنّ قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ} [البقرة: 216] محكمٌ، وأنّ فرض الجهاد لازمٌ للكل، إلّا أنّه من فروض الكفايات، إذا قام به قوم سقط عن الباقين؛ فلا وجه للنسخ" [26].

وفي تفسير الطبريّ: "حدّثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم}، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامّة تركه، فأمّا الرجل في خاصّة نفسه فلا … وقال آخرون: هو على كلّ واحد حتى يقوم به مَن في قيامه الكفاية، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين … وعلى هذا عامّة علماء المسلمين، قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجّة على ذلك، ولقول الله عز وجل: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء: 95]، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأنّ لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى" [27].

وروى عبد الرزاق: في باب وجوب الغزو: "عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس كلّهم؟ فقال هو وعمرو بن دينار: "ما علمنا"... وعن ابن جريج قال: أخبرني داود بن أبي عاصم: أنّ الغزو أواجب على الناس أجمعين؟ فسكت، فقد عُلم لو أنكر ما قلت لبيّن لي، فقلت لابن المسيب: تجهزت لا ينهزني إلا ذلك حتى رابطت قال: "قد أجزأت عنك" … وعن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت مكحولاً يقول: قال رسول الله ﷺ: (ما مِن أهْلِ بَيْتٍ لا يَخْرُجُ مِنهم غازٍ، أوْ يُجَهِّزُونَ غازِيًا، أوْ يَخْلُفُونَهُ في أهْلِهِ، إلّا أصابَهُمُ اللَّهُ بِقارِعَةٍ قَبْلَ المَوْتِ)" [28].

 فَتَأَمَّلْ كيف مارس الرجل القَلْبَ لنصوص العلماء والضغط عليها من كافّة أطرافها لتولِّدَ له -بالعسف والقهر- ما يُريد تقريره من قواعد متهافتة؟! وهكذا فعل في سائر ما نقله عن العلماء في تفاسيرهم لآيات الجهاد، واستقصاءُ ما ذهب إليه وتفنيدُه مضيعة للوقت؛ لذلك سنكتفي بهذا المثال، لندلّل به على طريقته في التعامل مع نصوص العلماء، وأنتقل سريعًا إلى ما هو أهمّ من كلّ ما سبق، وهو النصوص التي بلغت حدّ التواتر المعنويّ في دلالتها المشتركة على مضيّ الجهاد واستمراره في الأمّة الإسلامية؛ بما يقوّض نظريته من أصولها، إذ تقوم هذه النصوص حائلاً دون القول باختصاص عصر النبوّة بآيات القتال.

من ذلك: هذه الأحاديث المصرّحة بأنّ الجهاد ماضٍ لا ينقطع، كحديث (الخيل معقود في نواصيها الخير) فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (الخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)[29]، وعن عُرْوَةُ البَارِقِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ: الأَجْرُ وَالمَغْنَمُ)[30]، فهذا الحديث الصحيح يؤكّد استمرار هذه الفريضة التي هي رهبانية الأمّة، كما  في هذا الحديث: عن معاوية بن قرّة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةً، وَإِنَّ رَهْبَانِيَّةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[31]، فالخير المعقود في نواصي مركبات الجهادِ ماض إلى يوم القيامة، والجهادُ -وهو عند الإطلاق لا يعني إلّا القتال- رهبانيّة الأمّة الإسلامية، وميادين الجهادِ هي محاريبها وصوامعها التي تتبتّل فيها.

وقريب من هذا الحديث: حديث سلمة بن نفيل قال: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْخَيْلَ قَدْ سُيِّبَتْ، وَوُضِعَ السِّلاحُ، وَزَعَمَ أَقْوَامٌ أَنْ لا قِتَالَ، وَأَنْ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (كَذَبُوا، فَالآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، يُزِيغُ اللَّهُ قُلُوبَ قَوْمٍ لِيَرْزُقَهُمْ مِنْهُمْ، وَيُقَاتِلُونَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَلا يَزَالُ الْخَيْلُ مَعْقُودًا فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) [32].

أمّا حديث الطائفة المنصورة فهو من أقوى الأحاديث دلالةً على استمرار هذه الفريضة، ومن رواياته التي صرّحت بالقتال: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)[33]، وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)[34]، وعن مُعَاوِيَةَ مرفوعًا: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)[35]، وعن عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مرفوعًا: (لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ)[36]، وهذا سياق يدل على رضى النبيّ ﷺ بذلك، وهذه من الأحاديث التي تستلهم منها البُشريات باستعادة الأمّة لمجدها عبر القتال في سبيل الله.

هذا سوى الأحاديث التي تبشّر بالفتوح، وهي أيضًا تدلّ على استمرار الفريضة؛ لأنّها وإن كانت من قبيل الأخبار، إلا أنّها تحمل معنى الرضا بذلك، ورسول الله ﷺ لا يرضى بما يخالف شريعة الله، منها هذه الأحاديث: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ، قَالَتْ: (أَتَانَا النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا، فَقَالَ عِنْدَنَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: أُرِيتُ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: فَإِنَّكِ مِنْهُمْ، قَالَتْ: ثُمَّ نَامَ، فَاسْتَيْقَظَ أَيْضًا وَهُوَ يَضْحَكُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، قَالَ: فَتَزَوَّجَهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بَعْدُ، فَغَزَا فِي الْبَحْرِ فَحَمَلَهَا مَعَهُ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ قُرِّبَتْ لَهَا بَغْلَةٌ فَرَكِبَتْهَا فَصَرَعَتْهَا، فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا) [37].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ)[38]، وقال رسول الله ﷺ: (تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللهُ) قَالَ: فَقَالَ نَافِعٌ: يَا جَابِرُ، لَا نَرَى الدَّجَّالَ يَخْرُجُ، حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ[39].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا، قَالَتِ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا، وَاللهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ، إِذْ صَاحَ فِيهِمِ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِهِ، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ) [40].

وعن عمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ)[41]، وعنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ، صِغَارَ الأَعْيُنِ، حُمْرَ الوُجُوهِ، ذُلْفَ الأُنُوفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ) [42].

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ ﷺ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ)[43].

وقد اختصرت كثيرًا وقبضت يدي كثيرًا عن النصوص النبوية الصحيحة الصريحة المتواترة معنويًّا على معنى استمرار فريضة الجهاد ومضيّها في الأمّة إلى آخر الزمان، فمن المستحيل إذن أن تكون آيات القتال وما تحمله من أحكام خاصة بعهد النبوة، أو تكون من قبيل العامّ الذي يُراد به الخصوص.

 

الهوامش

 [1]  https://www.facebook.com/watch/live/?extid=CL-UNK-UNK-UNK-AN_GK0T-GK1C&r...

 [2] آيات القتال في القرآن نحو فهم مقاصديّ، (ص20)، منسوب لـ د. سعد الدين العثماني – الكتاب متداول على مواقع التواصل يحمل اسمه، وقد أحال إليه ثلاث مرات في محاضرة له بمنتدى الريسوني للحوار، وما يحتويه بسط لما في المحاضرة.

 [3] آيات القتال في القرآن نحو فهم مقاصديّ .. مرجع السابق (ص 10).

 [4] المرجع السابق (ص 8).

 [5] الرقّ ماضيه وحاضره للترمانيني، نقلاً عن: الصحوة الإسلامية في ميزان العقل – فؤاد زكريا – دار الفكر المعاصر – القاهرة – ط ثانية 1987م، (ص 22).

 [6] التراث والحداثة دراسات ومناقشات – د. محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – ط أولى 1991م، (ص 54-55).

 [7] مرجعيات الإسلام السياسي – عبد المجيد الشرفي – التنوير للطباعة والنشر والتوزيع – تونس ولبنان – ط أولى 2014م، (ص 27-28).

[8]  المرج السابق، (ص 78-79).

 [9] نقد الخطاب الديني – د. نصر حامد أبوزيد – سيناء للنشر – القاهرة – ط ثانية 1994م، (ص 213).

 [10] تاريخية الدعوة المحمدية في مكّة – هشام جعيط – دار الطليعة بيروت – لبنان – طبعة أولى 2007م، (ص 185).

 [11] الدولة والمجتمع – محمد شحرور – دار الأهالي – دمشق – بدون تاريخ، (ص 158).

 [12] التراث والمنهج بين أركون والجابري – د. نائلة جابر – الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت – ط أولى 2008م، (ص 81).

 [13] المستصفى (ص 224)

 [14] الإحكام للآمدي (2/198) 

 [15] الإبهاج في شرح المنهاج (2/82).

 [16] كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/33).

[17] الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 82) – نهاية السول شرح منهاج الوصول (ص 180) 

 [18] كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/30).

 [19] الفقيه والمتفقّه للخطيب البغدادي (1/298).

 [20] الرسالة للشافعي (1/61).

 [21] تفسير البغوي – طيبة (2/138).

 [22] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/66).

 [23] غريب القرآن لابن قتيبة ت أحمد صقر (ص 48) 

 [24] آيات القتال في القرآن، نحو فهم مقاصديّ – مرجع سابق (ص 48) وما بعدها .

 [25] تفسير القرطبي (3/38).

 [26] نواسخ القرآن = ناسخ القرآن ومنسوخه، ت آل زهوي (ص 73).

[27] تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (4/296).

[28] مصنّف عبد الرزاق الصنعاني (5/171).

[29] متفق عليه: البخاري (2849)، ومسلم (1871).

[30] متفق عليه: البخاري (2852)، ومسلم (1873).

 [31] رواه سعيد بن منصور في سننه (2309) بإسناد حسن رجاله ثقات عدا محمد بن الفضيل الضبي وهو صدوق عارف رمي بالتشيع. وابن أبي شيبة في مصنّفه (19333)، والبيهقي في الشعب (3923).

 [32] أخرجه النسائي (3561)، وأحمد (16965). والطبراني في الكبير (6358).

[33]  أخرجه مسلم (1922).

[34]  أخرجه مسلم (1923).

 [35]  أخرجه مسلم (1037).

[36]  أخرجه مسلم (1924).

 [37] أخرجه مسلم (1912).

[38]  أخرجه مسلم (2922).

[39]  أخرجه مسلم (2900)

[40]  أخرجه مسلم (2897).

[41]  أخرجه البخاري (2927).

 [42] أخرجه البخاري (2928).

 [43] أخرجه البخاري (2897).

 

إضافة تعليق جديد