الجمعة 29 مارس 2024 الموافق 19 رمضان 1445 هـ

منهج وتأصيل

هل النصوص في مسائل السياسة الشرعية قليلة؟

19 شعبان 1442 هـ


عدد الزيارات : 4327
د. عماد الدين خيتي، د. أيمن الهاروش، الشيخ: فايز الصلاح.

مدخل:

يُردد بعض من يخوض في مسائل السياسة الشرعية مقولات عن قلة النصوص في هذه المسائل، مفادها: "أنه لم يرد في الشريعة إلا القليل من النصوص التي تضبط الاتجاه العام والخطوط العريضة" فحسب، وأنها في غالب الأحيان "تصمت صمتًا مطبقًا في بعض الأمور المتغيرة" لذا فإننا "سنحصل على كثير من الآراء الظنية، وسنشعر أننا نقف على أرض هشة" في هذه القضايا، مما يولد "في إدارة الشأن الإنساني العام الكثير من الفراغات التي يتوجب على أهل كل زمان أن يملؤوها بما يتناسب مع أحوال زمانهم ومتطلباته، عبر عمليات اجتهادية متتابعة".

وهذه المقالة للإجابة عما سبق، وفي البداية لا بد من وضع أسسٍ للتعامل مع هذه العبارة:

أولاً: المقصود بالسياسة:

تُطلق السياسة ويقصد بها عدة أمور:

  • فإن قُصد بالسياسة معناها العام، وهو رعاية شؤون العامة، فالسياسة بهذا المعنى تشمل معظم أبواب الشريعة، وبهذا المعنى فالنصوص فيها كثيرة جدًا.
  • وإن كان المقصود بالسياسة: الأحكامُ السلطانية أو ما يسمى بأحكام الإمامة، وهذا المعنى هو الذي يقصده معظم مَن يطلق هذه المقولة، وربما يقصدون أدقّ مسألة من مسائلها وهي قضية اختيار الحاكم وعلاقته مع الرعية وصلاحياته ونحو ذلك، فالنصوص فيها وفيرة، وإن كانت أقلّ منها في غيرها.

ثانيًا: المقصود بالنصوص:

وكما تحدّثنا عن مرادهم بالسياسة، يمكن أن نتحدّث عن مرادهم بالنصوص:

فعبارتهم تدلّ على أنّهم يعنون بالنصوص: "أدلة الكتاب والسنة المباشرة المسوقة ابتداءً لبيان أحكام السياسة"، وهذا اختزال لأدلة الشريعة الإسلامية؛ فإنّ بيان الأحكام الشرعية ليس مقصورًا على الآيات والأحاديث المباشرة بحيث يُقال عند عدم الوقوف على تلك الأدلة المباشرة: إنّ الشريعة لم تُبيّن هذه الأحكام؛ لذا ينبغي البحث عن مصادر أخرى!

بل طبيعة الشريعة الإسلامية أنّها تبيّنُ ما يحتاجه الناس من الأحكام بطرقٍ متعدّدةٍ من البيان، فقد تبيّنُ الحكمَ بمنطوق الدليل أو بمفهومه، سواء كان مِن قَبيل مفهوم الموافقة أو المخالفة، وقد تبينُ الحكمَ بالعمومات، وقد تدلّ عليه بالتنبيه على العلّة عن طريق القياس، وقد تدلّ عليه باتفاق المجتهدين على الحكم، وقد تبيّنه بالقواعد والمصالح، وقد يكون ذلك بسنّة الخلفاء الراشدين وتطبيقاتهم التي وافقهم عليها سائر الصحابة.. وإذا نظرنا إلى أدلّة الشريعة بهذا الشمول نجد أنّ ادّعاء قلّة النصوص ليس في محلّه.

طبيعة السياسة الشرعية في الإسلام:

إنّ مدّعي قلّة النصوص في السياسة الشرعية خَفِيَ عليه معرفةُ موقع السياسة في ديننا، فالأحكام السياسية في الإسلام واسعة جدًا، وعامّة أحكام الدين لها تعلّق بالسياسة بطريقةٍ أو أخرى، والسياسةُ تجري منه مجرى الدم من الجسد: "نحن سياسيون منذ خُلقنا، لأننا مسلمون منذ نشأنا، وما الإسلام الصحيح بجميع مظاهره إلا السياسة في أشرف مظاهرها، وما المسلم الصحيح إلا المرشح الإلهي لتسيير دفّتها أو لترجيح كفّتها… نحن سياسيون طبعًا وجِبلة، ونحن الذين أيقظنا الشعور بهذا الحق الإلهي المسلوب، فما سار سائر في السياسة إلا على هُدانا، وما ارتفعت فيها صيحة إلا وكانت صدى مرددًا لصيحاتنا… نحن سياسيون لأن ديننا يعد السياسة جزءًا من العقيدة، ولأن زمننا يعتبر السياسة هي الحياة، ولأنها آية البطولة، ولأن وضعها يصير السياسة ألزم للحياة من الماء والهواء، ولأن السياسة نوع من الجهاد ونحن مجاهدون بالطبيعة فنحن سياسيون بالطبيعة"(1).

والنصوص الشرعية من الكتاب والسنّة، وسيرة السلف الصالحين من الخلفاء والراشدين ومَن جاء بعدهم هي بالمئات.

وقد وردت نصوص كثيرة في الحكم، والتشريع، والرعية وحقوقها، والحاكم وحقوقه، والإمارة، والطاعة، والاستخلاف، والبيعة، والأمر بالعدل والمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر، وفي القضاء وأحكامه، وفي مسائل الحرب والسلم، وفي أحكام المعاملات المالية والأحوال الشخصية، وعلاقة الحاكم في ضبطها، وتقدير المصالح وتحصيلها، وتقديم الأعظم منها على الأقلّ منها، ودفع المفاسد ومنعها، ودفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى، واعتبار المآلات، وغير ذلك من القواعد والجزئيات.

وبعد ذلك كله: فإنّ مَن آتاه الله علمًا وفهمًا يستطيع أن يستنبط كثيرًا من أحكام السياسة الشرعية من نصوص ليس ظاهرها في السياسة، كما هو مبسوط في كتب أهل العلم(2).

النصوص التي تتحدّث عن السياسة الشرعية:

هناك عشرات الآيات تتحدث عن السياسة الشرعية في ثنايا سور القرآن:

  • ففي تدبير الدولة وسياسة الملك خاصةً في أوقات الأزمات الاقتصادية والتعامل مع المخالفين نجد الكثير منها في سورة يوسف.
  • وآيات الجهاد وأحكامه نجدها في سُوَرٍ كثيرة كالبقرة وآل عمران والنساء والحج ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وغيرها.
  • وأحكام السلم والهدنة والأسرى نجدها في سورة الأنفال والتوبة وغيرها.
  • وأحكام الدعوة إلى الإسلام قبل القتال وإرسال الرسل وصفة إرسالهم نجدها في سورة النمل.
  • ونقرأ في إدارة الدولة أيام الفتن والاضطرابات في سورة الأحزاب، وفي الفتوحات والانتصارات في سورة الفتح.
  • ونقرأ في أحكام البُغاة والردّة والخروج على الأمّة وموالاة أعدائها في سورة الحجرات والمائدة والممتحنة، وغير ذلك من العناوين.

هذا في الآيات الصريحة الدالّة على أحكام السياسة الشرعية. أمّا غير الصريحة فكلُّ القرآن هدايةٌ ودلالةٌ على أمور السياسة الشرعية، وقد فسّرها العلماء في كتب التفسير؛ التي أصبحت بهذا مرجعًا مهمًّا في باب السياسة الشرعية.

وأما السنّة فقد امتلأت بأحكام السياسة الشرعية، فصنَّف المحدثون من شتى المذاهب كتبًا وأبوابًا في الجهاد، والقضاء، والإمارة وما شابه ذلك، ولهذه الكتب عشرات الشروح؛ فهي من مظانِّ السياسة الشرعية.

بل إنّ السياسة الشرعية دخلت إلى كتب الاعتقاد فيما يتعلق بالجماعة والإمامة ونحوها.

كما أنّ سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت تطبيقًا عمليًا للسياسة الشرعية النبوية، ثم كانت سيرة الخلفاء الراشدين استمرارًا للعهد النبوي، حتى إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سمّاها بالخلافة على منهاج النبوة، وخاصة في عهد الوزيرين أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما(3).

فالسياسة الشرعية تسري في مؤلفات عامة العلوم والفنون، وليس هذا وحسب، بل صُنفت مئات الكتب المفردة في هذا بعناوين متعددة: كالسّير، والأموال، والأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية.

فالمسألة ليست في عدم وفرة النصوص، بل القدرة على فهم النصوص واستنباط الأحكام منها، وقبل ذلك في القناعة بكفاية الشريعة لما يحتاجه الناس في هذا الباب.

فالنصوص والأدلة الشرعية في موضوعات السياسة أكثر من أن تحصى، لكن لما قصر أصحاب هذه المقولة السياسة في آلية اختيار الحاكم، وفي بعض المسائل التفصيلية التي تتفرع عنه مثل تعريف الحاكم ومَن يختاره؟ وما آلية الاختيار؟ وهل يصح أن يكون الحاكم شخصية اعتبارية (حزب) فيكون الاختيار بين أحزاب بدلاً من أشخاص؟ وهل يمكن معارضته؟ وهل يجوز تقسيم سلطاته؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التفصيلية، وجلّ مسائلها من النوازل المعاصرة، فحصرُ مفهوم السياسة في هذه القضية، والبحثُ في النصوص عن أدلّة خاصّة بها، ثمّ الحكمُ -انطلاقًا من هذا الحصر- على نصوص السياسة بأنها قليلة وشحيحة، جهلٌ في أمرين: في مفهوم السياسة كما سبق، وفي مفهوم طبيعة أحكام الشريعة الإسلامية، فليست كلها نصوصًا جزئية خاصة.

ومثلهم في ذلك كمن نظر في المعاملات المالية المعاصرة من الأسهم والبورصات والأوراق المالية، ثم لم يجد أدلةً خاصّة فيها، فسوّغ لنفسه أن يقول: لا توجد نصوص اقتصادية أو هي شحيحة! وضرب –جهلاً- بعُرض الحائط مئات النصوص في البيوع والمعاملات والأموال التي تشكّل منظومة اقتصادية متكاملة.

ما المقصود بقلّة النصوص في مسائل السياسة الشرعية؟

هذه العبارة مما تتناقله بعض الألسنة، وتحتاج لبيان:

  • فإن قُصد بها أن النصوص لا تغطي كلَّ الأحكام الشرعية التي يحتاج إليها الناس في باب السياسة الشرعية فهذا طعنٌ في الدين أنه ناقص غير كامل، والله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة كما قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: ٣].

وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: "لقد تركنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يَتَقَلَّبُ في السماء طائِرٌ إلا ذَكَّرَنَا منه علمًا"(4)، والمعنى أنّه ما من شيء مما يتعلق بأمور الناس إلا وقد دلَّ عليه الدليل إما منطوقًا أو مفهومًا أو تنبيهًا ببيان العلّة، ومن ذلك أمور الحكم، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٢٥].

والميزان وهو القياس الصحيح، فالدين قائمٌ على النقل القويم الصحيح والقياس الصريح.

  • وإنْ قُصِد أنّ القلّة نسبية وذلك بالنظر إلى النصوص الأخرى الواردة في أبواب العقائد والعبادات فهذا حقٌّ، ولا يضرُّ؛ لأنَّ قلّة أو كثرة النصوص إنّما جاء لطبيعة المُبَيَّن بتلك النصوص، وأبواب الشريعة متفاوتة في هذا الأمر.

فالعبادات والعقائد من الأمور التوقيفية التي يضيق فيها القياس والاجتهاد، فاحتاجت إلى نصوصٍ أكثر تفصيلاً، بخلاف السياسة الشرعية التي هي توقيفية الأصول واجتهادية في كثيرٍ من التفاصيل.

فالقلّة في نصوص السياسة الشرعية نسبية مقارنة بأقرانها من أبواب الفقه، وليست قليلة بذاتها كما يصوّرها البعض حتى إنّه يكاد يصوّرها شبه معدومة، وأنّه يملك مطلق الحرية في الاجتهاد دون قيود تحدّ اجتهاده(5).

فالكتاب والسنّة وآثار السلف من الأقوال والأفعال فيها من التفصيل الكثير، وتبقى دائرة الاجتهادات في السياسة الشرعية واسعة؛ لأنّها من باب التعامل مع الخلق، بخلاف العبادات التي تمحّضت للخالق فيكثر فيها التفصيل؛ فهي مبنيةٌ على التوقيف في تفصيلاتها بخلاف السياسة فهي توقيفية اجتهادية.

فالسياسة الشرعية: توقيفيةٌ اجتهاديةٌ، والتوقيفي منها يقوم على التأصيل وبعض التفصيل، ورُبَّ تأصيلٍ يفوق ألفَ تفصيل، وهناك مساحة اجتهادية، لأنَّ النوازلَ كثيرةٌ، ومن ثَمَّ يكون القول بأنّها قليلةٌ ليس له حظٌّ في مجال التحقيق العلمي.

أهمّية فهم النصوص الشرعية في أبواب السياسة الشرعية:

ليست العبرة بقلة النصوص أو كثرتها، وإنما العبرة بفقهها والقدرة على استنباط الأحكام منها؛ فمن أُوتي فهمًا صحيحًا ومنهجًا سليمًا سيتوصّل لاستنباط الأحكام الكثيرة منها، وبتفاوت الأفهام والقدرات يتفاوت الاستنباط، والنّاس متفاوتون في الأفهام، قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: ٧٩]، ففهّمها سليمان عليه السلام ولم يفهّمها غيره، وكذلك لما قيل لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟  قال: لا .. والذي فَلَقَ الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلّا فَهمٌ يُعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العَقلُ، وفَكاكُ الأسِير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر"(6).

فلِقصور الفهم الحاصل عند العديد ممن يتناول مسائل السياسة الشرعية يظنّ أنّها لا تحوي أحكامًا، فيحيل هذا القصور على النصوص ويدّعي قلّتها أو أنّها لا تفي بالغرض.

دلالة التاريخ على وفرة النصوص الشرعية:

يشهد لما سبق تقريره من بطلان القول بقلّة النصوص في مسائل السياسة الشرعية: قيام الدولة الإسلامية واستمرارها منذ عهد النبوة إلى سقوط الدولة العثمانية على مدى ألف وأربع مئة سنة، ومع أنّه قد اعترى هذه الدولة نقصٌ في بعض الجوانب ولا سيما بعد الخلافة الراشدة، إلّا أنّ قيامها طيلة هذه القرون دليلٌ على أنّها كانت تحقِّق وعد الله بالاستخلاف والتمكين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: ٥٥].

وخلال هذه القرون الطويلة تغيّرت ظروف الناس وأحوالهم وتبدّلت كثيرًا، ومع ذلك فقد استطاعت هذه الدُّول البقاء ومواكبة الحياة وتطوراتها البشرية والعلمية والحضارية، وهي في جميع ذلك تجد في نصوص الشريعة ما يُسعفها ويُعينها، ويجدُ عُلماؤها وحكّامها فيها غايتهم نصًّا أو اجتهادًا دون قصور أو ضعف.

فلو تأملنا طريقة الحكم وأنظمته: الإدارية والعسكرية والمالية والتعليمية ونحوها، كيف تطوّر من خلافة الصدّيق إلى سقوط الخلافة العثمانية، فسنكون أمام احتمالين لا ثالث لهما، إمّا أنّ الدولة الإسلامية تمكّنت من خلال قادتها وفقهائها وخبرائها من فهم النصوص والاجتهاد فيها بما حقّق لها هذا التطوّر والبقاء والتقدّم الحضاري بكلّ أشكاله، والاستفادة من شتى العلوم والخبرات من مختلف الأجناس.

وإمّا أنّها تركت نصوص الشريعة لقلّتها وقصورها وشحّها في الجوانب الإدارية والسياسة والعسكرية والمالية، والسياسية على وجه الخصوص –كما يدّعي هؤلاء- وذهبت تستورد نُظُمًا وطرقَ حكم من هنا وهناك، أو تجتهد في إدارة شؤونها بما تراه دون ضابط شرعي لها!

ولا يمكن لقائل أن يقول بالثاني، لأنّه يعني حينئذ إخراج هذه الدول عن وصفها بالإسلامية التي تعتمد الشريعة مرجعًا لها، ولأنّه لم يحصل في الحقيقة والواقع.

فكيف وَسِعت نصوصُ الشريعة الأمّةَ أربعة عشر قرنًا، واستطاعت من خلالها تقديم أروع وأفضل حضارة بشرية في التاريخ، ولا تسع الأمّة اليوم؟ إنّ المشكلة الحقيقة ليست في شحّ النصوص بل شحّ أرباب الحِجا والعلم الذين يستنبطون من النصوص كما استنبط الذين مِن قبلهم ما يرفع شأن الأمّة.

قلّة النصوص.. دعوى قديمة:

على الرغم من أنّ دعوى قلّة النصوص في باب السياسة خاصّة هي دعوى حديثة، إلا أنّه قد سبقتها دعوى قديمة في قلّة النصوص في عامّة الأحكام الشرعية، فقد سئل ابن تيمية رحمه الله عمن يقول: إن النصوص لا تَفِي بعشر مِعشارِ الشريعة: هل قوله صواب؟

فأجاب رحمه الله جوابًا طويلاً يحسن الرجوع إليه، جاء فيه: "الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أنّ النصوص وافيةٌ بجمهورِ أحكامِ أفعال العباد، ومنهم مَن يقول: إنّها وافية بجميع ذلك؛ وإنّما أنكر ذلك مَن أنكره لأنّه لم يفهم معاني النصوص العامّة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد، وذلك أنّ الله بعث محمدًا صلّى الله عليه وسلّم بجوامع الكلم فيتكلم بالكلمة الجامعة العامّة التي هي قضية كلية وقاعدة عامّة تتناول أنواعًا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانًا لا تُحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد"(7).

وقد صنَّفَ شيخُ الإسلام رسالة بعنوان: "قاعدة في شمول النصوص للأحكام" بيَّن هذا الأمر، وردَّ على المخالفين، وهي مطبوعة في المجموعة الثانية من جامع المسائل.

وعندما أحدث بعض الولاة بعض السياسات الظالمة؛ لظنّهم الفاسد أنّ الشريعة قاصرة عن تغطية النوازل ردّ عليهم أهل العلم وبيّنوا خطأهم في ذلك، قال ابن القيم رحمه الله: "وقد توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وما طائر يقلِّب جناحيه في السماء إلا ذَكَر للأمة منه علمًا، وعلمهم كل شيء… وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برُمَّته، ولم يُحوِجهم اللَّه إلى أحد سواه، فكيف يُظنُّ أنّ شريعته الكاملة التي ما طرق العالمَ شريعةٌ أكمل منها: ناقصةٌ تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تُكمّلها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها؟

ومن ظنّ ذلك فهو كَمَن ظنَّ أنّ بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاءُ ما جاء به على مَن ظنّ ذلك، وقلّة نصيبه من الفهم الذي وَفَّق اللَّه له أصحاب نبيه صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنهم.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: ٥٧]، وكيف يُشفي ما في الصدور كتابٌ لا يفي هو وما تُبيّنه السنّة بعُشر معشار الشريعة؟

ويا للَّهِ العجبُ كيف كان الصحابة رضي الله عنهم والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى الله بُنيانها من القواعد وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس والأوضاع؟ هل كانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم بالله وأسمائه وصفاته، وما يجب له، وما يمتنع عليه منهم؟ فوالله لَأَنْ يَلقى اللهَ عبدُه بكلّ ذنب ما خلا الإشراك خيرٌ من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل"(8).

وقال ابن تيمية رحمه الله: "والتحقيق أنّ الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلّى الله عليه وسلّم جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف الشريعة منها فهو باطل، وما وافقها منها فهو حقّ؛ لكن قد يُغَيّرُ أيضًا لفظ الشريعة عند أكثر الناس؛ فالملوك والعامّة عندهم أنّ الشرع والشريعة اسم لحُكم الحاكم، ومعلومٌ أنّ القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا فالشريعة جامعة لكلّ ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات

وهذه جملة تفصيلها يطول، غلط فيها صنفان من الناس:

  • صنفٌ سوّغوا لنفوسهم الخروج عن شريعة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله؛ لظنّهم قصورَ الشريعة عن تمام مصالحهم جهلاً منهم، أو جهلاً وهوى، أو هوىً محضًا.
  • وصنفٌ قَصَّروا في معرفة قدر الشريعة؛ فضيّقوها حتى توهّموا هم والنّاس أنّه لا يمكن العمل بها، وأصل ذلك الجهل بمسمى الشريعة ومعرفة قدرها وسعتها، والله أعلم"(9).

فما بال النصوص الأخرى؟

من اللافت أن نجد القائلين بقلة النصوص في أبواب السياسة الشرعية في المسائل التي وردت فيها نصوص شرعية قاطعة، وافق عليها أهل العلم عبر العصور؛ نجدهم رافضين لما دلت عليه النصوص الشرعية من أحكام، تارة بذريعة التجديد، وتارة بذريعة المقاصد، وأخرى بدعوى ظنية دلالة النصوص، ونحوها، كمسائل أحكام غير المسلمين في الدولة المسلمة (أهل الذمة)، وولاية المرأة، ونحوها.

فحين وُجدت النصوص لم يأخذوا بها! مما يلقي مزيدًا من الضوء على حقيقة دعوى قلة النصوص الشرعية، والهدف منها(10).

وختامًا:

فإنّ مِن رحمة الله وعدله وحكمته أنْ جعل نصوص السياسة الشرعية متناسبة مع مجالها؛ لتسير عَجَلة التشريع بمرونة وحيوية، وإنّ الاجتهاد اليوم هو الوسيلة لتقديم الحلول المناسبة لمستجدّات الدولة والسياسة في عصرنا، لا هجر الشريعة تحت ذريعة الظنّ الواهم بقصور نصوصها.

وحين تأتي الدعوة للاجتهاد، فمن نافلة القول أنّ المقصود به الاجتهاد الصادر مِن أهله وبضوابطه، وليس الاجتهاد الذي يتسوّر عتباتِه مَن لا يعرف مبادئ العلوم الشرعية، فهذا مِن شأنه أن يأتي بشريعة وسياسة ما أنزل الله بها من سلطان، كما هو حال كثير ممن يزعمون العمل السياسي الإسلامي، ولا يقال لمثلهم: اجتهد فأخطأ فله أجر، بل يقال: أخطأ فاجتهد وعليه وزر.


الهوامش:

  1. ينظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، أحمد طاهر الإبراهيمي، (٤/٢٦٠).
  2. ينظر: فصل (في طريق استنباط الأحكام الشرعية)، من كتاب: المدخل إلى السياسة الشرعية، لعبد العال عطوة، ص (١٠٩) وما بعدها.
  3. عن حذيفة رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (اقتَدوا باللَّذينِ من بعدي، أبي بكر وعمر) أخرجه الترمذي (٣٦٦٢) وابن ماجه (٩٧) وأحمد (٢٣٢٤٥)، قال السندي في حاشيته على المسند: "فيه بيان قوة اجتهادهما وإصابتهما الحق غالبًا، وفيه إخبار عن خلافتهما".
  4.  أخرجه أحمد (٣٥/٣٤٦) برقم (٢١٤٣٩)، وقال محققو المسند: حديث حسن.
  5. في المقابل يلحظ كثرة النصوص التي تتناول التعامل مع الحاكم في مختلف أحواله، من السمع والطاعة في المعروف، والنصح وتقديم المشورة، والإنكار عليه، والاستقلال عنه في الفتوى والقضاء، وتجنب العلماء لأبواب السلاطين، إلى أن تصل إلى أحكام العزل ونزع اليد من الطاعة، وهي كثرةٌ لا تُنكر. ولعل الحكمة من هذا والله أعلم: أنّ الحاكم كيفما تولى -سواء بالشورى أو بالانتخاب، أو بالوراثة وولاية العهد، أو بقوة السيف والتغلب- فلا يتوقف الأمر عند ذلك، إذ المهم كيفية تعامل الأمة معه، وكيفية إعانته على الحق، ومنعه من الظلم، وأن تعرف متى تناصره وتؤيده ومتى تقف بوجهه، وبهذا لا تضيع الأمة بحاكم يعلو وآخر ينزل، بل يحفظها الربانيون من أهل العلم بأمانة الكلمة وتحمل تبعاتها، في ضمانة فريدة لم توجد في أي دين أو نظام قديمًا وحديثًا.
  6. أخرجه البخاري (٦/٢٥٣٤) برقم (٦٥١٧).
  7. مجموع الفتاوى، لابن تيمية (١٩/٢٨٠(.
  8.  إعلام الموقعين، لابن القيم (٤/٢٨٦(.
  9. مجموع الفتاوى، لابن تيمية (١٩/٣٠٧ -٣١٠).
  10.  ينظر: أغلوطة المثقفين حول النظام السياسي في الإسلام، د. معن عبدالقادر.

إضافة تعليق جديد