الحفاظ على الهويّة والثّبات على القضيّة
مقدمة:
قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
لقد أوضحت الآية الكريمة مبدأين مهمّين من المبادئ الّتي يقوم عليها المجتمع، وبيّنت أمرين لا بدّ من مراعاتهما للمحافظة على استقراره وسلامته واستمراره:
أمّا المبدأ الأوّل فهو: الاختلاف والتّنوّع، حيث كان مِن حكمة الله -عز وجلّ- أنْ جعل النّاس مختلفين في ثقافاتهم ولغاتهم، وأفكارهم وأعراقهم، وإنّ هذا الاختلاف ليس مدعاةً لنشوب الحروب أو الاقتتال بينهم، وإنّما هو سبيلٌ للتّعاون والتّعارف والتّكامل، ولقد بيّن الله العلّة من هذا التّنوّع؛ فقال سبحانه: {لِتَعَارَفُوا}، وفي خضمّ هذا الاختلاف والتّنوّع، جعل الله أمّة الإسلام خير الأمم قاطبةً، لأنّ المسلم يحمل الخير وحبّ الهداية للنّاس أجمعين، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وأمّا المبدأ الثّاني فهو: ميزان التّفاضل بالتّقوى، قال جلّ جلاله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
فليست القضيّة أن ينتسب الإنسان إلى أمّةٍ من الأمم، أو ينتمي إلى قبيلةٍ من القبائل، بل إنّ مبدأ التّفاضل عند ربّنا -عز وجل- إنّما هو على أساس التّقوى والصّلاح، لا على أساس النّسب والحسب، فمن تمسّك بدينه وزاد عليك في التّقوى؛ ارتفع فوقك في الّدرجات عند المولى سبحانه، ومن قلّت بضاعته من الأعمال الصّالحة؛ فإنّ نسبه لا يرفعه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) أخرجه مسلم (2699).
وإنّ مِن نِعم الله –سبحانه- علينا أن أكرمنا بهويّةٍ إسلاميّةٍ، تجمع بين التّصديق والاعتقاد به جلّ جلاله، مع العمل والسّلوك، على مستوى الفرد والجماعة، وأمرنا بالتّمسّك بها، والدّفاع عنها ضدّ كلّ من تسوّل له نفسه العبث بها، أو محاولة طمسها وتغييرها، من أجل صرف صاحبها عن ثوابته الرّاسخة، الّتي هي مصدر العزّة والكرامة.
المحافظ على الهويّة الإسلاميّة:
لا شكّ أن أيّ أمّة تريد النّهضة والرّقيّ لا بدّ أن تستند في هذا الأمر إلى هويّتها، والمقصود بالهويّة: مجموع الصّفات والسّمات وطرائق العيش والتّاريخ الّذي تمتلكه كلّ أمّةٍ كي تميّزها عن الأمم الأخرى، وإنّ الهويّة الإسلاميّة هي أهمّ ما يميّز المسلمين عن غيرهم من الأمم الأخرى، وقوام هويّتهم هو الإسلام وعقيدته وشريعته وآدابه ولغته وتاريخه وحضارته، ولقد جاء هذا الدّين كاملًا، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وأمر الله أهل الإسلام ألّا يحيدوا عنه، فقال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
وأخبرهم بأنّه ميّزهم عن الأمم الأخرى بمنهجهم وهويّتهم الوسطيّة، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
لقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -من خلال كثيرٍ من مواقفه- كيفيّة المحافظة على الهويّة الإسلاميّة، ممّن يريد طمسها وتغييرها، وذلك حينما رفض العروض القرشيّة لجعل قضيّة الدِّين خليطاً بين الإسلام والوثنيّة، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ` لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ` وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1-2].
ولقد هاجر من مكّة إلى المدينة من أجل إقامة المجتمع والشّخصيّة ذات الهويّة الإسلاميّة، ممتثلاً قول الله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56].
لقد ربّى الشّخصيّة المسلمة على التّبرّؤ من أهل الشّرك وأحوالهم والتّحذير من مشابهتهم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) أخرجه أبو داوود (4031).
وقد شدّد في مخالفة الكفّار في كلّ مجالٍ؛ لتتجلّى البراءة منهم بوضوحٍ، وتبرز الهويّة الإسلاميّة، وذلك في العبادات والسّلوك وفي المظاهر الاجتماعيّة وفي الهيئة والصّورة، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (خَالِفُوا الْيَهُودَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَلَا خِفَافِهِمْ) أخرجه أبو داوود (652).
وعن الْحَجَّاجُ بْنِ حَسَّانَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي الْمُغِيرَةُ، قَالَتْ: وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ وَلَكَ قَرْنَانِ، أَوْ قُصَّتَانِ، فَمَسَحَ رَأْسَكَ، وَبَرَّكَ عَلَيْكَ، وَقَالَ: (احْلِقُوا هَذَيْنِ -أَوْ قُصُّوهُمَا- فَإِنَّ هَذَا زِيُّ الْيَهُودِ) أخرجه أبو داوود (4197).
وإنّ الحكمة من التّمسّك بالهويّة الإسلاميّة والتّحذير من التّشبّه بغير المسلمين: أنّ التّشبّه بهم قد يُفضي إلى مصيرنا، قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113].
الثّبات على الهويّة السّوريّة:
لقد خلّفتِ الحرب -الّتي شنّها النّظام الغاشم- على شعبنا السّوريّ الحرّ، الكثيرَ من الويلاتِ والدّمار، وإنّ أخطر ما يصيب الشّعبَ السّوريَّ إنّما هو: محاولات طمس هويّته، وتغيير ثقافته، وتأجيج الصّراع بين مكوّناته، حيث إنّ حرب الأعداء لأمّةٍ من الأمم، إنّما يكون بالتّركيز على ضرب مقوّمات هذه الأمّة، وذلك بضرب عقيدتها، وتشويه تاريخها، وإضعاف لغتها، وسلخها من كلّ أصولها الّتي تنتمي إليها، وذلك من خلال سلك طرقٍ واضحةٍ ومدروسةٍ بعنايةٍ.
ومن هنا: فقد أصدر (المجلس الإسلاميّ السّوريّ) وثيقة الهويّة السّوريّة، الّتي تبيّن وتوضّح ملامح هويّة المجتمع السّوريّ، حيث إنّه مجتمعٌ متجانسٌ متكاملٌ، يحترم هذا التّنوع الّذي نشأ عليه، فلا يَحدث اقتتالٌ بسبب اختلافٍ في العِرق أو المذهب أو الدّين، وإنّما فُرضَ القتال على الشّعب المكلوم من قبل عصابةٍ مجرمةٍ غاشمةٍ، ودولٍ ظالمةٍ مساندةٍ مارقةٍ على النّظام الدّوليّ والإنسانيّ، ولقد نصّت الوثيقة بوضوحٍ على أنّ: "الإسلام هو دين غالبيّة الشّعب السّوريّ، وهو ثقافةٌ وحضارةٌ لجميع أبناء الشّعب السّوريّ"، فقد عاش غير المسلمين مع الشّعب المسلم في سوريّا لمئات السّنين، دون أن يبغي أحدٌ على أحدٍ، أو يستلب أحدٌ حقوق أحدٍ، وهو ما يمكن أن نسمّيه: مبدأ المواطنة، والله عز وجل يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
كما أنّ: المكوّناتِ التّاريخيّةَ العديدةَ الموجودةَ في سوريّا، والمتنوّعة في ثقافاتها، ولغاتها، وأديانها، وانتماءاتها، إنّما هي مكوّناتٌ أصيلةٌ، وحقوقها مصونةٌ مضمونةٌ، وحريّات الجميع مكفولةٌ متناغمةٌ مع الهويّة السّوريّة الأصيلة، ولا تعود عليها بالنّقض.
إنّ العبث بالهويّة السّوريّة -الّتي تقوم به إيران وروسيا كدولٍ محتلّةٍ لسوريّا اليوم، ومحاولاتِ تغيير ثقافة المجتمع السّوريّ ودينه وانتمائه ولغته- إنّما هو من أكبر الجرائم الشّنيعة، إلى جانب الجرائم الأخرى الّتي ترتكبها هذه الدّول المغتصبة كلّ يومٍ بحقّ شعبنا المكلوم، كما أنّ محاولاتِ إعادةِ صياغة الدّستور، في ظلّ استمرار الاحتلال لسوريّا من قبل النّظام المجرمِ والدّول الدّاعمة له، مع تجاهل ثقافة المجتمع السّوريّ ودينه، إنّما هي محاولاتٌ بائسةٌ فاشلةٌ، لن تنال شيئًا -بإذن الله- من القبول والنّجاح.
فكان من الواجب علينا في مواجهة محاولة طمس الهويّة الإسلاميّة أن نتمسّك بتعاليم الإسلام وشريعته، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155].
وأن نتعاون على نشر ذلك في المجتمع والعالم، قال سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحجّ: 41].
ختاماً:
للحفاظ على هويّة الأمّة قويّةً، لا بدّ مِن: إحداث يقظةٍ شاملةٍ، وترسيخٍ لكلّ مقوّمات الهويّة، وهذه مسؤوليّةٌ فرديّةٌ وجماعيّةٌ على حدٍّ سواء، ذلك لأنّ الهويّة إنّما تعبّر عن وجود الأمّة وكيانها، وحاضرها ومستقبلها.
وإنّنا على ثقةٍ بأنّ أمد الفتنة والطّغيان في الشّام لن يطول، لأنّها موطن بركةٍ وأمنٍ وإيمانٍ، وإذا كان فساد أهل الشّام مؤذناً بذهاب الخير من الأمّة، فإنّ هذا يزيد المسؤوليّة على أهل الشّام، أن يتمسّكوا ببلادهم، ويثبتوا فيها، ويدافعوا عنها ضدّ من يريد بها فساداً وإجراماً، وأن يحافظوا على هويّتهم السّورية الإسلاميّة من كلّ من يريد بها سوءً، وأن يصلح كلُّ واحدٍ نفسه، ليكون أداةَ خيرٍ ونفعٍ، وصلاحٍ وإصلاحٍ، للمجتمع بأسره.
إضافة تعليق جديد