الجمعة 06 ديسمبر 2024 الموافق 04 جمادي الثاني 1446 هـ

منهج وتأصيل

الوسطية من المفهوم إلى التطبيق

16 رجب 1441 هـ


عدد الزيارات : 6457
جهاد بن عبدالوهاب خيتي

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمّا بعد.

فإنّ الحديث عن مفهوم الوسطية في هذه المحاضرة[1] سيكون بإذن الله تعالى من خلال ثلاثة محاور:

المحور الأول: تحديد المفهوم، وذلك من خلال تتبع مواضع ذكر كلمة الوسط أو الوسطية في القرآن والسنة، وبيان معناها، وصولًا إلى تعريف الوسطية.

المحور الثاني: كيف نحقق الوسطية؟

المحور الثالث: مفاهيم خاطئة عن الوسطية.

------------------------------------

المحور الأول: تحديد مفهوم الوسطية:

قبل أن نتحدّث عن الوسطية، نريد أن نقف على مصدر هذه الكلمة من أين جاءت؟

وردت كلمة (وسط) و(أوسط) في القرآن الكريم في خمسة مواضع:

1- يقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143]، ومعنى (وسطًا) أي عدولًا، وقد جاء هذا التفسير في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي. والمعنى: خير الأمم وأعدلها.

قال الطبري: "وأرى أن الله -تعالى ذكره- إنما وصفهم بأنّهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدّلوا كتاب الله وقتلوا أنبيائهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها" إلى أن قال: "والوسط العدل ... وذلك معنى الخيار؛ لأنّ الخيار من الناس عدولهم"[2].

2- ويقول تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وفي تفسيرها قولان: الوسطى أي الأفضل، والوسطى حسب موقعها بين الصلوات[3].

3- ويقول جلّ شأنه: {فكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89]، "والمراد بالوسط هنا: المتوسّط بين طرفي الإسراف والتقتير ... أي أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام أهليكم منه، ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه، ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه"[4].

4- ويقول عزّ وجلّ: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، "أوسطهم: أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم"[5].

5- ويقول سبحانه وتعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:5] أي توسطتهم، بمعنى: صارت في وسط الجمع[6].

أمّا في الأحاديث، فقد وردت الكلمة في عدد كبير منها، ومن ذلك:

1- حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى، هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ لاَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَالوَسَطُ العَدْلُ) [7].

فالوسط في هذا الحديث هو العدل، وهو المقابل للظّلم، وأمّة محمد -صلى الله عليه وسلم- سيشهدون بما علموا من صدق الأنبياء، وهذا هو الحق والعدل.

2- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَّ خَطًّا، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ، فَقَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ})[8]. فالخط الأوسط هو "صراط الله مستقيم الذي لا عوج فيه، وهو طريق الحق، ودين الإسلام، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء في القرآن الكريم، وهو صراط المنعم عليهم، أما السبل المتعرّجة عن اليمين والشمال فهذه سبل الباطل والضلال"[9].

3- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ) [10]. قال الحافظ ابن حجر: "المراد بالأوسط هنا الأعدل والأفضل، كقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا}، فعلى هذا فعطفُ الأعلى عليه للتأكيد، وقال الطيبي: المراد بأحدهما العلوّ الحسي وبالآخر العلو المعنوي"[11].

4- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (البَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ) [12]. قال المباركفورى: "والوسط أعدل المواضع فكان أحقّ بنزول البركة فيه" [13]

 

نلاحظ هنا أن الوسط جاءت في القرآن والسنّة على المعنى اللغوي للكلمة وهو النصف والعدل.

قال ابن فارس رحمه الله: "(وَسَطَ) الْوَاوُ وَالسِّينُ وَالطَّاءُ: بِنَاءٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ وَالنِّصْفِ. وَأَعْدَلُ الشَّيْءِ: أَوْسَطُهُ وَوَسَطُهُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُمَّةً وَسَطًا}. وَيَقُولُونَ: ضَرَبْتُ وَسَطَ رَأْسِهِ بِفَتْحِ السِّينِ، وَوَسْطَ الْقَوْمِ بِسُكُونِهَا. وَهُوَ أَوْسَطُهُمْ حَسَبًا، إِذَا كَانَ فِي وَاسِطَةِ قَوْمِهِ وَأَرْفَعِهِمْ مَحَلًّا[14].

إذن:

  1. (الوسْط) ظرف بمعنى بين، يقال: جلس وسْط القوم، أي بينهم[15].
  2. و(الوسَط) اسم لما بين طرفي الشيء وهو منه [16].
  3. ويكون صفةً بمعنى: الأفضل والأعدل [17].
  4. ويطلق (وسط) و(أوسط) على كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، كالسخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهوّر[18].

من خلال ما تقدّم في معنى الوسطية في اللغة، ومن خلال النصوص التي ذكرتها نتبيّن "أن الوسطيَّة هي: مؤهل الأمة الإسلامية من (العدالة والخيريّة) للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجَّة عليهم ... وهذا المصطلح لا يصحّ إطلاقه إلا إذا توافرت فيه صفتان:

  • الخيريَّة، أو ما يدلّ عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.
  • البينيَّة، سواء أكانت حسِّيَّة أو معنويَّة.

فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلًا في مصطلح الوسطيَّة"[19].

تعريف الوسطية في الاصطلاح:

إذا أردنا أن نضع تعريفًا اصطلاحيًا للوسطية نقول:

الوسطية هي: الاستقامة على دين الله، وتحقيق التوازن في الأمور كلها بعيدًا عن الإفراط والتفريط.

المحور الثاني: كيف نحقق الوسطية؟

تتحقّق الوسطية بأمرين اثنين:

1- بالاستقامة على دين الله تعالى.

وهذا يتطلب منّا:

  • التمسّك بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ) [20].
  • وسلوك منهجٍ واضح صحيح في فهم الدين والعمل به وفق هدي النبي -صلى الله عليه وسلّم- وخلفائه الراشدين المهديين (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) [21].
  • واتباع هدي سلف الأمّة من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين ومن سار على نهجهم، فهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، بهم ينتشر العلم، ويزول الجهل، وهم ورثة الأنبياء، وقد أمرنا الله تعالى بالرجوع إليهم فقال: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}[النحل:43].
  • ومن الاستقامة على الدين: السعي المتواصل الدؤوب للوصول للحق والصوابِ والإتقان والإحسان في جميع أمور حياتنا؛ فإقامة الدنيا وعمارة الأرض من الدين.

2- بالتوازن والالتزام بقاعدة (لا إفراط ولا تفريط):

  • فلا إفراط بالغلو في الدين والتشديد على النفس وعلى الآخرين، ولا تفريط بعقائد الإسلام وأحكامه وآدابه.
  • ولا إفراط ولا تفريط في أمور الدنيا، بل إعطاء كل ذي حقّ حقّه، (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ) [22]. وقد كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- في بناء الإنسان: بناء العقل بالعلم، والجسد بالعافية والنشاط، والروح بالتزكية، والوجدان بالقيم؛ ليكون بناء الإنسان متماسكًا متكاملًا متناغمًا منسجمًا متوازنًا[23]، وهكذا في سائر أمور الحياة.
  • ومن التوازن: الميل إلى التيسير والتبشير، فالنبي صلى الله عليه وسلّم (مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ -أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الْآخَرِ- إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)[24]، ولما بَعثَ معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري -رضي الله عنهما- إلى اليمن أوصاهما فقال: (يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا) [25].

 

دور العلماء في تحقيق الوسطية:

للعلماء الربانيين دور مهمّ جدًا في تحقيق الوسطية في المجتمع، لا يتوقّف عند حدود:

  • (التعليم): تعليم الناس كيف تكون الوسطية.
  • ولا عند حدود (تمثيل القدوة) بأن يجعلوا من أنفسهم قدوة للآخرين في تحقيق الوسطية.

بل يتطلّب منهم الجهاد والاجتهاد المتواصلين للحفاظ على جوهر الإسلام ونقائه، ونفي كلّ ما يخالفه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ, يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ, وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ, وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ) [26].

فالوسطية دعوة، تتطلب:

(1) الالتزام الشخصي بها، وهذا معنى العدالة: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ).

قال الإمام النووي رحمه الله: "وهذا إخبارٌ منه -صلى الله عليه وسلم- بصيانة العلم وحفظه، وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفًا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف وما بَعُدَ، فلا يضيع. وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهذا من أعلام النبوة. ولا يضرّ مع هذا كون بعض الفساق يعرف شيئًا من العلم فإنّ الحديث إنّما هو إخبار بأنّ العدول يحملونه لا أنّ غيرهم لا يعرف شيئًا منه، والله أعلم"[27].

(2) والدعوة إليها، (3) والدفاع عنها. وهذا معنى: (يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ, وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ, وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)

و(الْغَالِينَ): هم أهل الغلوّ والتشدّد والتعمّق والتنطّع، وتحريفهم هو الخروج عن الاستقامة واليسر.

و(الْمُبْطِلِينَ): هم أهل الضلال والأهواء والانحراف عن الدين الحق، الذين ينتحلون النصوص ويستدلون بها على باطلهم، وينسبون باطلهم إلى الدين.

و(الْجَاهِلِينَ): هم الذين ليس لديهم علم ولا هدى ولا بصيرة، فيتكلّمون في الدين بأهوائهم، ويؤولون النصوص وفق مرادهم.

 

المحور الثالث: مفاهيم خاطئة عن الوسطية:

1- يفهم بعض الناس الوسطية بأنّها التوسّط بين طرفين مهما كان موضع هذا التوسّط من الحق، وهذا استعمال فضفاض يؤول إلى التَّساهل أو التشويه!!

فتجد بعضهم يقصد بالوسطية: التوسط بين الالتزام بأحكام الإسلام والتساهل فيها! مع أنّ هذا التوسّط المزعوم هو في الحقيقة ابتعادٌ عن الطريق المستقيم ولو بدرجة يسيرة.

وبعضهم يصف بعض الغلاة بالوسطية مقارنة بمن هم أشدّ منهم غلوًّا، أو يصف بعض المفرّطين بالوسطية مقارنة بمن هم أكثر تفريطًا منهم، وهذا بلا شك خطأ واضح، ويؤدّي إلى تصحيح هذا الانحراف وتزكية أهله رغم بعدهم عن الصراط المستقيم.

2- يفهم بعض الناس الوسطية بأنّها: البعد عن التشدّد بأيّ طريقة، ولو أدّى ذلك لترك العملَ بجزءٍ من الدينِ، أو التهاونَ في فعلِ بعضِ المحرمات، وهذا ناتج عن الفهم الخاطئ للتديّن؛ فهؤلاء يظنون أنّ الزيادة في التديّن تؤدّي إلى الوقوع في الغلوّ، فيجنحون إلى التخفيف من تديّنهم أو تديّن زوجاتهم وأولادهم، ويرون أنّ عملهم هذا وسطية!

والصحيح أنّ الدين ليس فيه غلو، والاستقامة عليه لا تؤدّي إلى الغلو، ولكنّ الغلو يحصل في أسلوب التديّن بالزيادة على ما جاء في السنّة؛ نتيجة الجهل أو نتيجة وجود خلل في التفكير وانحراف في السلوك، ومن يكلف نفسه من العبادة فوق طاقتها فإّنه سينقطع ويضطر إلى الرجوع إلى يسر الدين واعتداله (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ) [28].

3- ضبابية تحديد مفهوم الوسطية نفسه لدى البعض لاسيما عند إطلاق هذا المصطلح، سواء أطلقه على نفسه أو أطلقته بعض الجماعات أو الحركات أو الأحزاب الإسلامية على نفسها في محاولة لاحتكار هذا الوصف، أو عند إطلاق هذا الوصف على الآخرين والحكم عليهم به سواء بالإثبات أو النفي. وهذا راجع إلى الخلل في فهم الوسطية، والخلل في طريقة الحكم على الآخرين.

4- يطلق البعض مصطلح الوسطية وكأنّها مذهب أو اتجاه جديد في الإسلام، فيقولون: (الإسلام الوسطي) وكأنّ هناك إسلام وسطي وإسلام متشدّد!!

وهذه التسمية خاطئة، وهي من التأثّر بدعايات الكفّار الذين يريدون أن يحرفوا المسلمين عن دينهم، فتراهم يروّجون لوسطية بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، ومعلوم أنّ السير في هذا المنهج آخره مظلم، ويعني في نهاية الأمر الانسلاخ من الدين بالكلّية.

 

كلمة الختام:

إذا أردنا أن ندخل ضمن الخيرية التي وصف الله تعالى بها هذه الأمّة ونكون في مقام الشهادة على الناس: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فعلينا أن نحقّق الشهادة على أنفسنا بقيامنا بالقسط والحق والعدل والخير. وأن نحذر من الخروج عن الوسطية إلى الغلو والإفراط، أو إلى التفريط والتساهل والتمييع.

عليك بأوساط الأمور فإنها *** طريقٌ إلى نهج الصوابِ قويمُ

ولا تكُ فيها مُفْرِطا أو مُفَرّطا *** كِلا طرَفَيْ قصدِ الأمور ذميمُ

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


[1] - وقف دار السلام - اسطنبول - 11/1/2020

[2] - جامع البيان (3/142).

[3] - ينظر تفسير ابن كثير (1/ 489-496).

[4] - فتح القدير للشوكاني (2/82).

[5] - تفسير البغوي (8/196).

[6] - المرجع السابق (8/508)

[7] أخرجه البخاري (3339).

[8] - أخرجه ابن ماجه (11)، وأحمد (15277).

[9] - شرح سنن ابن ماجه للراجحي (1/4).

[10] - أخرجه البخاري (7423).

[11] - فتح الباري (6/13).

[12] - أخرجه الترمذي (1805) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

[13] - تحفة الأحوذي (5/ 427).

[14] - مقاييس اللغة (6/108).

[15] - لسان العرب (7/428).

[16] - المرجع السابق.

[17] - المرجع السابق.

[18] - النهاية في غريب الحديث والأثر (5/184).

[19] - الوسطية والاعتدال ... من أجل استراتيجية لاستيعاب فكرة التطرف والغلو – محمد يتيم - http://alabasirah.com/node/1016.

[20] - أخرجه المروزي في السنّة (68)، والآجري في الشريعة (1704)، والحاكم في المستدرك (318) و(319)، والبيهقي في سننه (20336)، وأصله في الصحيح.

[21] - أخرجه أبو داوود (4607)، وابن ماجه (42)، وأحمد (17144).

[22] - أخرجه البخاري (1968).

[23] - د. عصام البشير، كلمة مسجّلة في برنامج سواعد الإخاء بعنوان: وسطية المنهج النّبويّ.

[24] - أخرجه البخاري (3038)، ومسلم (78-2327).

[25] - أخرجه البخاري (6786)، ومسلم (7-1733) واللفظ له.

[26] - رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3884)، والآجري في الشريعة (1/ 269)، والطبراني في مسند الشاميين (599)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (33)، وغيرهم. والحديث مشهور صححه الإمام أحمد وابن عبدالبر وابن القيّم وغيرهم.

[27] - تهذيب الأسماء واللغات (1/17).

[28] - أخرجه البخاري (39).

إضافة تعليق جديد